أحمد غباشي
شغلت زيارة الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني للصين الشعبية الأربعاء 4 سبتمبر 2024 الرأي العام المحلي، وعلى المستوى الدولي نقاشات المتابعين للشأن السوداني وتطورات الحرب والنزاع المسلح فيه.. ثم جاءت التصريحات الأخيرة لعضو مجلس السيادة الفريق ياسر العطا عن اقتراب حسم المعركة في جميع الجبهات بعد وصول أسلحة نوعية ستحدث تحولاً كبيراً، إلى يد الجيش، لتزيد من حدة وقع السؤال.. "ماذا جرى مع البرهان في بكين؟!".
الزيارة التي جاءت بمناسبة انعقاد المنتدى الصيني الإفريقي بالعاصمة بكين في الفترة من 4 إلى 6 سبتمبر ، كانت فرصة أمام القيادة السودانية لتجديد العلاقات مع واحد من أقوى الحلفاء الاستراتيجيين لمختلف الحكومات السودانية خلال العقود الماضية. كما كانت موضوعاً لتكهنات المحللين حول الأهداف الحقيقية للزيارة في ظل الحرب الدائرة في البلاد، خاصة أنها جاءت في أعقاب مبادرة جنيف الفاشلة التي حاولت أمريكا من خلالها تخطِّي الموقف السوداني الرسمي الرافض لاستحداث أي منبر جديد للتفاوض يتجاوز منبر جدة وما تم الاتفاق عليه في ذلك المنبر من مقررات.
تلك التكهنات قادت البعض للحديث عن صفقات للأسلحة، وعن تحول في استراتيجية السودان في السياسة الخارجية السودانية، من الغرب إلى الشرق وغير ذلك من القراءات القائمة على تحليل المشهد الآني.
حتى قيادة المليشيا المتمردة مضت في هذا الاتجاه، ففي تغريدة منشورة على حساب حميدتي في منصة إكس قال قائد المليشيا إن البرهان يبحث عن أمل، ولو كان كاذباً، لتغيير الواقع الذي يعلمه الجميع، وهو إشعالهم لحرب الخامس عشر من أبريل بهدف إعادة عقارب الساعة إلى الوراء واستعادة دولة الفساد والمحسوبية والتمكين” على حد قول كاتب التغريدة.
على خلاف المعتاد بدأ الرئيس البرهان برنامج الأعمال المصاحب للزيارة منذ اليوم الأول لانعقاد الملتقى، حيث فاجأ جميع المراقبين، بتسجيل زيارة إلى مقر مجموعة الشركات الصينية العاملة في مجال النفط ”سي إن بي سي”، وهي إحدى أهم الشركات الصينية التي كانت تعمل في مجال النفط في السودان منذ عهد الرئيس السابق عمر البشير، في إشارة واضحة إلى فتح الأبواب للاستثمارات الصينية واستعادت النشاطات التي توقفت بسبب الحرب أو تأثرت بسياسات حكومة الحرية والتغيير التي كانت تفضل وضع كل البضاعة السودانية في الفناء الغربي.
واستغل الفريق أول البرهان مشاركته في المنتدى ليعرض قضية السودان للدول الإفريقية في منبر بعيد عن المنابر الإفريقية التقليدية التي استحوذ عليها الاستقطاب الإقليمي الداعم للمليشيا المتمردة، مثل الاتحاد الإفريقي والإيقاد.. عرض البرهان جرائم مليشيا الدعم السريع وطالب بتصنيفها "مجموعة إرهابية" والمساعدة في القضاء عليها.
وفي لقائه الرئيس الصيني شي جين بينغ يوم الجمعة8 سبتمبر، انصب تركيز اللقاء على أوجه العلاقات السودانية الصينية في مجالاتها المختلفة، بما فيها المرتبط بمجالات الدفاع والصناعات الدفاعية، وخاصة دعم الصين لما دمرته وخربته الحرب، كما جرى توقيع عدد من الاتفاقيات المهمة.
تاريخ العلاقات الصينية السودانية:
يعود تاريخ إنشاء أول علاقات دبلوماسية بين السودان والصين إلى العام ١٩٥٩م إبان حكم الفريق إبراهيم عبود ونظام نوفمبر (١٩٥٨-١٩٦٤م) العسكري، وظلت العلاقات متصلة منذ ذلك التاريخ، وقد شهدت نشاطا زائداً، في بعض العهود، خصوصاً خلال النصف الأول من عهد حكم نظام مايو (١٩٦٩م- ١٩٨٥م)، بيد أن أكثر عهد شهد تطوراً غير مسبوق للعلاقات السودانية الصينية كان عهد نظام الإنقاذ (١٩٨٩- ٢٠١٩م)، وساعد على ذلك أن النظامين الصيني والسوداني كانا متشابهين في الظروف السياسية؛ حيث كانت الصين تعيش عزلة دولية فرضتها عليها الدول الغربية بقيادة واشنطن بعد أحداث (تيان آن) عام ١٩٨٩م، بينما كان السودان منبوذا من الدول الغربية وبعض الدول العربية والإفريقية بسبب توجهاته، مما ولَّد نوعاً من التوافق بين بكين والخرطوم.
ومع بداية الألفية الثالثة تطورت العلاقات إلى شراكة اقتصادية قوية، بعد بدء السودان في استخراج النفط، وأصبح من أهم شركاء الصين في إفريقيا حين اندفعت الشركات الصينية للهيمنة على استخراج النفط السوداني، وساعد على ذلك إحجام الشركات الغربية وإيقاف أعمالها في السودان إذعاناً لقانون تجريم الاستثمار في السودان الذي أصدرته واشنطن عقب اندلاع الحرب في دارفور.
واستند النظام السوداني بقوة إلى حليفه الصيني في مواجهة كثير من الأزمات السياسية التي واجهها بسبب موقف المعسكر الغربي المعادي له، وكثيراً ما استخدمت الصين حق الفيتو داخل مجلس الأمن الدولي لمنع كثير من مشروعات العقوبات التي كان واشنطن ولندن وباريس تسعيان لفرضها على السودان.
وظلت العلاقات الصينية السودانية محافظة قوتها، رغم تراجع قدر المصالح الاقتصادية عقب انفصال جنوب السودان في العام ٢٠١١م وذهابها بما يقارب ٧٥٪ من النفط السوداني، ولكن اهتمام الصين بالسودان لم يتراجع نظراً لموقعه الاستراتيجي في القارة الإفريقية.. وقد تم إنشاء العديد من مرافق البُنى التحتية والمستشفيات والمدارس في السودان بمساعدة تنموية مجانية من الصين. واستمرت الاستثمارات الصينية في السودان بوتيرة متأرجحة بين الصعود الهبوط..
ولكن بعد سقوط نظام الإنقاذ في العام ٢٠١٩م، ومجيء تحالف الأحزاب المدنية للحكم شهدت العلاقات الصينية السودانية جموداً ملحوظاً، بسبب عدم اكتراث حكومة تحالف قوى الحرية والتغيير لأي علاقات ومصالح بعيدة عن الفلك الغربي، وبسبب الاضطرابات السياسية والتظاهرات وأعمال الشعب التي كانت سمة لذلك العهد.. ولكن التجارة التبادلية بين البلدين ظلت محافظة على حجمها إلى حد كبير، ففي عام ٢٠٢٢ بلغ ٢.٩ مليار دولار أمريكي.
وبعد اندلاع حرب التمرد الأخيرة في السودان في أبريل ٢٠٢٣م، غادرت معظم الشركات الصينية التي تبقت في السودان، وأوقفت الصين حتى الاحتفال بذكرى إنشاء العلاقات الصينية السودانية الذي درجت عليه منذ عقود. ولكن مع ذلك حافظت على شعرة معاوية مع السودان، حيث لا يزال فريق المساعدات الطبية الصينية يعمل في السودان.
موقف الصين من حرب السودان:
منذ اندلاع الحرب في السودان في ١٥ أبريل ٢٠٢٣م، ظلت الصين محافظة على حذر دبلوماسي في التعاطي مع الأزمة، وظل خطابها الرسمي يراوِح بين دعم السلام والاستقرار في السودان ووقف الحرب، والدعوة لاحترام سيادة السودان وسلامة أراضيه وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للسودان أو فرض حلول من الخارج،
ويعتبر المبدأ المتعلق بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، أحد أبرز موجهات السياسة الصينية في المجال الخارجي، والصراعات في العالم، وفي أفريقيا تحديدًا، حيث تحرص بكين على عدم التورط في الصراعات الداخلية للدول..ولذلك اتسم الموقف الصيني من حرب السودان بالحياد، طيلة الفترة الماضية، خاصة أن بكين كانت مرتبطة بعلاقات طيبة مع كلا طرفي الصراع (البرهان وحميدتي).
بجانب ذلك يتسم الموقف الصيني بالبراغماتية في الموازنة بين المصالح ومساندة الحلفاء، فهي لا تريد أن تعرض مصالحها في السودان للخطر، كما لا ترغب في إثارة القوى الإقليمية والدولية الأخرى.
وفي المقابل فإن استمرار الصين في المحافظ على موقف الحياء قد يتسبب بمخاطر لمصالحها في السودان الذي يعتبر ثالث أكبر شريك تجاري للصين في إفريقيا وأكبر مصدر للنفط إلى الصين، حيث يسد السودان ٦٪ من احتياجات الصين النفطية، بجانب استثماراتها في هذا القطاع المتوقفة منذ اندلاع الصراع، فاستمرار القتال في السودان يتسبب بأضرار بالغة للصين. وذلك بجانب مخاوف الصين من امتداد الصراع إلى دول أخرى ترتبط بمصالح تجارية مع الصين مثل دولة جنوب السودان التي تسد حوالي ٢٪ من احتياجات الصين النفطية، تلك الاحتياجات التي لابد أن تمر عبر خط الأنابيب الذي يشق الأراضي السودانية إلى وصولا لمصفاة التصدير بميناء بشائر بشرق السودان، قبل أن تصل إلى الصين.
كما تتخوف الصين من تأثير الصراع على وجودها السياسي والاستراتيجي المتزايد في القرن الإفريقي، ولاسيما بعد بناء أول قاعدة عسكرية خارجية في جيبوتي، وفي إطار استراتيجية “الحزام والطريق” التي تقضي أن تقوم بكين بتعزيز وجودها تدريجياً في جميع أنحاء العالم، والسيطرة على المنافذ البحرية المهمة في العالم لضمان مصالحها الاستراتيجية الاقتصادية والجيوسياسية.
كل ذلك قد يمثل متغيرات قد تدفع الصين إلى التخلي، ولو بشكل جزئي ومؤقت، عن نهج الحياد فيما يتعلق بالصراع في السودان.
ماذا حدث في بكين وكيف تُقرأ تصريحات العطا؟!:
وقع رئيس مجلس السيادة والوفد الحكومي المرافق له على حزمة من الاتفاقيات والشراكات والعقود الكبيرة في المجلات التنموية، بلغت في مجملها حدود 7 مليار دولار، وأهم تلك الشركات ما تم توقيعه مع مجموعة الطاقة والتعدين المنضوية تحت منظومة الصناعات الدفاعية وشركات- CHINA ENERGY- المتخصصة في بناء الطاقة النووية للأغراض السلمية وإنشاء الموانئ والمطارات، كما تم توقيع اتفاقات في مجال الطاقة النظيفة وتوليد الكهرباء من الطاقة الشمسية، للمساهمة في إنتاج حوالي- 1500 ميجاواط، بجانب إصلاح خطوط نقل الكهرباء وتمديدها.
ولكن الجانب الأكثر أهمية هو ما تم توقيعه من اتفاق للتعاون الإستراتيجي في المجالات الدفاعية.. بين منظومة الصناعات الدفاعية وشركة بولي – POLY- الصينية للتعاون الاستراتيجي في المجالات الحيوية والدفاعية.. وهو الموضوع المثير للجدل، حيث يبدو ظاهر الاتفاق أنه متعلق بالاسناد الاستراتيجي وتطوير الصناعة الدفاعية في السودان، وهو موضوع ذو صفة استراتيجية، ولكن هل يشمل ذلك صفقات عاجلة لاستيراد الأسلحة من الصين؟! أم يقتصر الأمر على الشراكات الاستراتيجية لتطوير البنية الدفاعية..
التصريحات الأخيرة التي أطلقها الفريق ياسر العطا أمام جنود الفرقة الثالثة مشاة بشندي، وأكد فيها: ”دخول أسلحة نوعية جديدة إلى المعركة” وشدد على أنها ستحدث تحولاً كبيراً وستسهم في تدمير الميليشيا قريباً- كما أكد أن القوات المسلحة ستتحرك قريباً من جميع الاتجاهات لتحرير كل شبر من أرض السودان.
وبغض النظر الأجزاء المثيرة للجدل في تصريحات العطا المتعلقة باستمرار قائد الجيش على رأس السلطة، فإن الجزء المتعلق بالتسليح هو المهم، لأنه قد يُقرأ في سياق واحد مع التقارب الصيني السوداني، وربما يعطي مؤشراً لدى البعض إلى احتمال حصول السودان على صفقات أسلحة ضمن حزمة الاتفاقيات والشراكات التي تم توقيعها خلال زيارة البرهان!.
ومن جهة يحتاج السودان في الوقت الراهن إلى حليف قوى بحجم الصين، لمواجهة السيناريوهات الدولية المحتملة، عقب فشل مشروع جنيف، التي يمكن أن تتخذ في مجلس الأمن الدولي فيما يتعلق بالأزمة السودانية، من قبيل فرض عقوبات على الجيش السوداني والقيادة السودانية، أو فرض حظر على توريد السلاح، أو حظر الطيران فوق أجزاء من الأراضي السودانية.. وتطلعات السودان لمساندة الصين له في تلك الملفات، باعتبارها واحدة من الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، هي تطلعات تتسق مع موقف بكين من الصراع في السودان، حيث ترفض توقيع عقوبات على أطراف الصراع، أو التصويت على ذلك في مجلس الأمن.
فهل سوف تُلقي الصين رداء الحياد، وتنحاز لمصالحها الاقتصادية والسياسية، فتنخرط في مساندة الحكومة السودانية عسكرياً وسياسياً، أم تفضل المواصلة في سياسة الحذر وعدم التورط في صراعات الشركاء، والحفاظ موقف يوازن بين حماية مصالحها ومساعدة حلفائها وبين عدم الانزلاق إلى عمل مكشوف يمكن للدول المنافسة تصنيفه في خانة دعم استمرار الحرب؟!..ويبدو الاحتمال الأخير هو الذي ترجحه، حتى الآن، المؤشرات؛ سواء كانت في التصريحات المعلنة للقادة في بكين، أو التي تتضمنها تقاليد السياسة الخارجية الصينية مع
بقلم الكاتب / أ.أحمد إسماعيل
باحث سوداني