الموقف الأمريكي تجاه الحرب في السودان: محاولة للفهم

 

توطئة:

تعد الحرب في السودان من أبرز القضايا الإنسانية والسياسية التي تستقطب اهتمام المجتمع الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية. منذ اندلاع النزاع، سعت الولايات المتحدة إلى لعب دور فاعل في محاولات التوصل إلى حلول سلمية ومستدامة، إلا أن هذه الجهود غالباً ما كانت تعكس تباينات داخلية بين مختلف مؤسسات الحكومة الأمريكية. يعكس هذا الانقسام التعقيدات المرتبطة بتحديد السياسات الخارجية للولايات المتحدة في مناطق النزاع، حيث تتباين الرؤى والمصالح بين الجهات المختلفة مثل وزارة الخارجية، ووزارة الدفاع، والكونغرس، ومؤسسات الأمن القومي والوكالات الإنسانية.

تكشف هذه الورقة عن التباينات الداخلية في الموقف الأمريكي تجاه الحرب في السودان، حيث تظهر الانقسامات بين مؤسسات الحكومة الأمريكية المختلفة. تسلط الدراسة الضوء على العوامل التي تسهم في هذه الانقسامات، مثل اختلاف الأجندات السياسية والمصالح الاستراتيجية، بالإضافة إلى التأثيرات المتباينة للسياسات المتبعة على الأرض. من خلال تحليل المواقف المختلفة، تسعى الورقة إلى تقديم فهم أعمق للتحديات التي تواجه صياغة سياسة خارجية موحدة وفعالة تجاه السودان، وأثر هذه الانقسامات على الجهود الدولية الرامية إلى تحقيق السلام في السودان.

هذا بالإضافة الى تغير السياسة الخارجية الأمريكية ككل مع تغير الادارة الامريكية حيث تتسم السياسة الخارجية الأمريكية بتغيرات ملحوظة تتبع تغيير الرئيس أو الإدارة الحاكمة. يعود هذا إلى الاختلافات الأيديولوجية والسياسية بين الأحزاب الرئيسية في الولايات المتحدة، وهي الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي، فضلاً عن تأثير رؤى ومواقف الرئيس المنتخب ومستشاريه على صنع القرارات الخارجية. هذه التغيرات يمكن أن تكون جذرية أو تدريجية، لكن من المؤكد أن وصول إدارة جديدة إلى البيت الأبيض يؤدي إلى إعادة تقييم الأولويات وتعديل الاستراتيجيات.

شهدت العلاقات الأمريكية السودانية تحولات كبيرة منذ اندلاع ثورة ديسمبر 2018 التي أطاحت بنظام الرئيس عمر البشير. هذه الثورة كانت نقطة تحول في تاريخ السودان وأثرت بشكل كبير على علاقاته الخارجية، بما في ذلك مع الولايات المتحدة. تميزت الفترة التي أعقبت الثورة وحتى قبيل اندلاع الحرب في السودان بالتعاون والتوتر المتزايد في الوقت ذاته، حيث لعبت الولايات المتحدة دورًا حيويًا في التأثير على محاولات السودان لتحقيق الاستقرار والانتقال السلمي للسلطة.

دور الولايات المتحدة الأمريكية في المرحلة الانتقالية

بعد نجاح الثورة في الإطاحة بعمر البشير في أبريل 2019، دخل السودان مرحلة انتقالية تهدف إلى تحقيق التحول الديمقراطي والتنمية الاقتصادية. تم تشكيل حكومة انتقالية بقيادة مدنية وعسكرية مشتركة، وكان هذا التغيير محط اهتمام وترحيب من قبل الولايات المتحدة التي سعت إلى دعم هذه المرحلة عبر تقديم المساعدات الاقتصادية والسياسية.

إحدى أهم الخطوات التي اتخذتها الولايات المتحدة لدعم الحكومة الانتقالية في السودان كانت رفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب في ديسمبر 2020.[1] هذا القرار كان له تأثير كبير على الاقتصاد السوداني، حيث أتاح للحكومة الانتقالية إمكانية الوصول إلى التمويلات الدولية والمساعدات الاقتصادية. جاءت هذه الخطوة بعد سلسلة من المفاوضات والالتزامات من قبل السودان، بما في ذلك اتفاق على دفع تعويضات لضحايا الهجمات الإرهابية التي تم ربطها بالنظام السابق.

تتسم السياسة الخارجية الأمريكية بتغيرات ملحوظة تتبع تغيير الرئيس أو الإدارة الحاكمة. يعود هذا إلى الاختلافات الأيديولوجية والسياسية بين الأحزاب الرئيسية في الولايات المتحدة، وهي الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي، فضلاً عن تأثير رؤى ومواقف الرئيس المنتخب ومستشاريه على صنع القرارات الخارجية. هذه التغيرات يمكن أن تكون جذرية أو تدريجية، لكن من المؤكد أن وصول إدارة جديدة إلى البيت الأبيض يؤدي إلى إعادة تقييم الأولويات وتعديل الاستراتيجيات.

شهدت العلاقات السودانية الأمريكية تحولات جذرية خلال فترة حكم الرئيس دونالد ترامب، حيث تم رفع اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، وهو تطور له تداعيات كبيرة على السياسة والاقتصاد السوداني. هذا التحول كان مرتبطاً بشكل مباشر ببدء السودان في التطبيع مع إسرائيل[2]، في خطوة مثيرة للجدل أملتها عوامل سياسية واقتصادية متعددة. و كان السودان قد أُدرج على القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب في عام 1993 بسبب دعم النظام السابق بقيادة الرئيس عمر البشير للجماعات التي تصنفها الولايات المتحدة إرهابية. أدى هذا التصنيف إلى فرض عقوبات اقتصادية ودبلوماسية صارمة على السودان، مما أثر سلباً على اقتصاده وعلاقاته الدولية. بعد سقوط نظام البشير في أبريل 2019، بدأت الحكومة الانتقالية في السودان تسعى لتحسين العلاقات مع المجتمع الدولي، ورفع اسم السودان من قائمة الإرهاب كان خطوة محورية لتحقيق هذا الهدف.

في أكتوبر 2020، أعلنت الولايات المتحدة عن رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، بعد اتفاق السودان على دفع تعويضات لضحايا الهجمات الإرهابية التي ارتبطت بوجود زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في السودان في التسعينيات. بلغت قيمة هذه التعويضات 335 مليون دولار، وهو مبلغ تعهد السودان بدفعه كجزء من الاتفاق.[3] و لكن كانت عملية رفع اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب مرتبطة أيضاً ببدء السودان في تطبيع العلاقات مع إسرائيل. في 23 أكتوبر 2020، أعلنت الولايات المتحدة والسودان وإسرائيل عن التوصل إلى اتفاق لتطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل، برعاية إدارة الرئيس ترامب و وقع عن السودان آنذاك وزير العدل السابق نصر الدين عبد الباري[4] و وقع عن الولايات المتحدة وزير الخزانة مينوشن الذي كان في زيارة خاصة للخرطوم و تل ابيب لدفع عملية التطبيع. جاء هذا الإعلان كجزء من سلسلة من اتفاقيات التطبيع بين إسرائيل وعدة دول عربية، فيما عُرف باتفاقيات أبراهام.

كانت الدوافع وراء موافقة السودان على تطبيع العلاقات مع إسرائيل متعددة ومعقدة. من الناحية الاقتصادية، كان رفع العقوبات الأمريكية والحصول على مساعدات مالية واقتصادية من الولايات المتحدة والدول الأخرى عامل جذب كبير. بالإضافة إلى ذلك، كان للسودان حاجة ملحة لإعادة دمجه في الاقتصاد العالمي والحصول على فرص استثمارية جديدة لتحسين اقتصاده المتعثر. قوبل قرار التطبيع مع إسرائيل بردود فعل متباينة داخل السودان وخارجه. داخلياً، رحب البعض بالخطوة باعتبارها ضرورة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والسياسي، في حين انتقدها الأكثرون بشدة، معتبرين أنها خيانة للقضية الفلسطينية وتنازلاً عن المواقف التقليدية للسودان. دولياً، رحبت الولايات المتحدة وإسرائيل والدول المؤيدة للتطبيع بهذه الخطوة، واعتبروها إنجازاً دبلوماسياً مهماً يعزز السلام في المنطقة.

دعم التحول الديمقراطي

بعد فوز جو بايدن بالرئاسة الأمريكية في نوفمبر 2020، شهدت العلاقات السودانية الأمريكية تطوراً ملحوظاً، خاصة في ظل التحالف الليبرالي الحاكم في السودان الذي كان يتمتع بعلاقات وثيقة مع الحزب الديمقراطي الأمريكي منذ فترة معارضة نظام عمر البشير. بدأت الولايات المتحدة في التدخل بشكل مباشر في صياغة خطط اقتصادية تتبنى المبادئ النيو ليبرالية. وقد انعكس هذا التدخل على مشاريع تغيير القوانين والأعراف في السودان بشكل عام.[5]

بمجرد دخول بايدن إلى البيت الأبيض، تعززت آفاق التعاون بين السودان والولايات المتحدة، حيث تدفقت المعونات المالية بشكل كبير لدعم الاقتصاد السوداني المتعثر. شملت هذه المعونات حزمة مساعدات مالية مباشرة لدعم ميزانية الدولة، بالإضافة إلى منح وقروض ميسرة من المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.[6] تم تخصيص جزء كبير من هذه الأموال لدعم القطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم والبنية التحتية، مما ساعد في تخفيف الأعباء الاقتصادية على الحكومة الانتقالية وتحسين الخدمات العامة المقدمة للمواطنين.[7]

لم تقتصر المساعدات الأمريكية على الدعم المالي فقط، بل تضمنت أيضاً مساعدات فنية واسعة النطاق. تم إرسال فرق من الخبراء والمستشارين الأمريكيين لدعم جهود الحكومة السودانية في مجالات متعددة مثل الإصلاح الإداري، وإعادة هيكلة الاقتصاد، وتعزيز القدرات المؤسسية.[8] عمل هؤلاء المستشارون جنباً إلى جنب مع المسؤولين السودانيين لتطوير استراتيجيات فعالة لتحسين الأداء الحكومي وضمان استخدام الموارد بشكل أكثر كفاءة وشفافية.[9]

تحدثت التقارير عن وجود مستشارين أجانب داخل مختلف مرافق الدولة السودانية، وهو ما أثار بعض الجدل محلياً. رأى البعض في هذا الوجود دعماً ضرورياً لتعزيز القدرات الوطنية وتحقيق الإصلاحات المطلوبة، في حين انتقده آخرون باعتباره تدخلاً خارجياً في الشؤون الداخلية للبلاد. رغم هذه الانتقادات، كانت الحكومة السودانية مدركة لأهمية الخبرات الأجنبية في بناء القدرات المحلية وتحديث الإدارة الحكومية، حيث تم توظيف هؤلاء المستشارين في وزارات حيوية مثل المالية، والزراعة، والتعليم، والصحة.

بالإضافة إلى ذلك، شهدت مشاريع تغيير قوانين المرأة والأعراف السودانية تدخلاً من الولايات المتحدة، حيث أثارت جهود الحكومة الأمريكية قضايا حقوق الإنسان والمساواة الجندرية في السودان.[10] وقد أدى ذلك إلى تغييرات في السياسات والقوانين المتعلقة بحقوق المرأة في البلاد، مما أثار جدلاً حول احترام الثقافة والتقاليد السودانية.

شهدت تلك الفترة أيضا   تأسيس البعثة المتكاملة للأمم المتحدة في السودان (UNITAMS) في عام 2020 بموجب القرار 2524 لمجلس الأمن الدولي.[11] تم إنشاء هذه البعثة بهدف دعم العملية السياسية في السودان ومساعدة الحكومة الانتقالية في تحقيق أهدافها، بما في ذلك إعادة الإعمار وتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان. وقد أتى تأسيس هذه البعثة كاستجابة لطلب تقدم به عبد الله حمدوك، رئيس الوزراء آنذاك.

  نشأت بعض الخلافات بين القيادة العسكرية ورئيس الوزراء عبد الله حمدوك بشأن صلاحيات البعثة ودورها في السودان.  كانت هناك اختلافات بين العسكر وحمدوك بشأن مدى سلطة UNITAMS ونطاق عملها في السودان.[12] وقد طرحت الحكومة الانتقالية مخاوف من أن البعثة قد تتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد وتعرقل العملية السياسية.

 

 العلاقات الأمريكية السودانية بعد انقلاب أكتوبر 2021

شهدت العلاقات الأمريكية السودانية تحولات جذرية في المجالات السياسية والاقتصادية والإنسانية عقب الانقلاب الذي وقع في السودان في أكتوبر 2021.[13] تأثرت هذه العلاقات بشكل كبير وواضح، حيث أثار الانقلاب تساؤلات وتحفظات كبيرة من المجتمع الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة. وردًا على الانقلاب، اتخذت الولايات المتحدة موقفًا حازمًا يدين الانتهاكات الديمقراطية، مطالبًا بعودة السودان إلى المسار الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان. شملت الإجراءات العقابية فرض عقوبات اقتصادية وتجميد المساعدات العسكرية ضد الجهات المسؤولة عن الانقلاب.[14]

مع ذلك، بينما تبنت الحكومة الأمريكية مواقف صارمة، شهد التفاعل الأمريكي على مستوى الشعب تباينات وتنوعًا. أبدت بعض الشرائح السياسية والمدنية في الولايات المتحدة دعمها للحركة الديمقراطية في السودان وتضامنها مع الشعب السوداني.[15]

الاتفاق الإطاري وتنامي التأثير الدولي

تصاعدت الضغوط الدولية على السودان بعد انفراد العسكر بالسلطة في 2021. شهدت تلك الفترة تعيين أول سفير أمريكي للخرطوم منذ قرابة عقدين، حيث تم تعيين جون جودفري الذي يتمتع بخلفية دبلوماسية في الشرق الأوسط ويجيد اللغة العربية. جاء تعيينه متأخرًا، بعد قرابة عامين من تولي بايدن الرئاسة الأمريكية، نظرًا لعدم الاهتمام الكبير الذي توليه الإدارة الأمريكية بالملف الإفريقي بشكل عام، خصوصًا مع تفاقم الحرب الروسية الأوكرانية ومواصلة التنافس الصيني الأمريكي على الصعيد العالمي، مما قلل من أهمية الملف السوداني في الدوائر الأمريكية.

اتخذ السفير الأمريكي موقفًا معاديًا للسلطة الانقلابية منذ وصوله إلى الخرطوم. فرغم تقديم أوراق اعتماده لرئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان، قام السفير أيضًا بالاجتماع مع ممثلي قوى الحرية والتغيير في نفس اليوم، معلنًا دعمه لإنهاء الانقلاب والعودة لحكومة بقيادة مدنية. كما انخرط جودفري في جهود المبعوث الأممي فولكر بيرثيس للتوسط بين المكون العسكري والمدني.

رغم توسيع السفير الأمريكي دائرة مشاوراته بزيارة القيادات الأهلية في بعض أقاليم السودان، ظل توجهه العام داعمًا لتوجه المبعوث الأممي فولكر، الذي كرست حواراته لسيطرة قوى الحرية والتغيير على المشهد. لاحقًا، تطور مخطط المبعوث الأممي ورعى ورشة أقامتها الحرية والتغيير لكتابة مشروع دستور انتقالي للفترة الانتقالية الجديدة. كرَّس هذا المشروع سيطرة الحرية والتغيير، كما أبرز لأول مرة وجود مؤسستين عسكريتين منفصلتين: القوات المسلحة والدعم السريع.

بدأت المفاوضات فيما بعد في إطار مشروع الاتفاق الإطاري، الذي تمت رعايته من البعثة الأممية والرباعية الدولية (الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة). نص الاتفاق الإطاري صراحةً على ضرورة تكوين جيش موحد ودمج قوات الدعم السريع وبقية الحركات المسلحة وفق فترة زمنية محددة. كانت هذه المادة محل اختلاف بين ممثلي الجيش والدعم السريع، مما أدى إلى استمرار التباينات بين المؤسستين منذ فض الشراكة في أكتوبر 2021 وحتى اندلاع الحرب في أبريل 2023.

الموقف الأمريكي من حرب الخامس عشر من أبريل

في الخامس عشر من أبريل 2023، اندلعت الحرب في السودان بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، مما أدى إلى تصاعد التوتر والعنف في البلاد. اتخذت الولايات المتحدة موقفًا حذرًا وسريعًا للتعامل مع الوضع، موجهة اهتمامها في البداية نحو إجلاء الطاقم الدبلوماسي الأمريكي من الخرطوم، بالإضافة إلى جهودها لوقف القتال ودفع الأطراف المتنازعة نحو التفاوض والعودة إلى الاتفاق الإطاري.

مع تصاعد العنف في الخرطوم، كان الاهتمام الفوري للإدارة الأمريكية هو ضمان سلامة الطاقم الدبلوماسي والعاملين الأمريكيين في السفارة. تم تنسيق عملية الإجلاء بشكل مكثف مع كل من الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، حيث تم تأمين ممرات آمنة لخروج الدبلوماسيين الأمريكيين. كانت هذه العملية دقيقة ومعقدة، نظراً للوضع الأمني الخطير وتضارب المصالح بين الأطراف المتحاربة، لكنها نُفذت بنجاح دون وقوع إصابات في صفوف الأمريكيين.

بعد إجلاء الطاقم الدبلوماسي، ركزت الإدارة الأمريكية جهودها على محاولة وقف الحرب المتصاعدة في السودان. دعمت الولايات المتحدة المبادرات الدولية والإقليمية لإعادة الجيش السوداني وقوات الدعم السريع إلى طاولة المفاوضات. عملت بالتعاون مع الأمم المتحدة والرباعية الدولية (المملكة المتحدة، المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة) للضغط على الأطراف المتنازعة من أجل التوصل إلى وقف لإطلاق النار والعودة إلى الاتفاق الإطاري الذي نص على تكوين جيش موحد ودمج قوات الدعم السريع.

 

على الرغم من جهود الولايات المتحدة لوقف النزاع، تجاهلت الإدارة الأمريكية تجاوزات قوات الدعم السريع على مباني السفارة الأمريكية ومساكن إقامة الدبلوماسيين والمواطنين الأمريكيين. تم تسجيل العديد من الحوادث التي تورطت فيها قوات الدعم السريع في اقتحام ونهب ممتلكات السفارة الأمريكية ومساكن الموظفين الأمريكيين، مما أثار استياءً كبيرًا بين الأوساط الدبلوماسية والشعبية. ومع ذلك، لم تتخذ الإدارة الأمريكية إجراءات قوية ضد هذه الانتهاكات، مفضلة التركيز على الجهود الدبلوماسية والسياسية لإنهاء الصراع. ليس هذا فحسب بل تجاهلت تلك السياسة الأمريكية تحالف الدعم السريع مع مجموعة فاغنر الروسية و التي تصنف كمنظمة إرهابية في الولايات المتحدة الأمريكية، و هذا ما أثاره الجنرال مايكل لانجلي ، قائد قيادة أفريقيا بالجيش الأمريكي في جلسة استماع بالكونغرس في مارس الماضي. أشار الجنرال الى تهديد الدعم السريع لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة نسبة لتحالفها مع روسيا و فاغنر.[16] يبرز هذا التهديد خصوصا مع تراجع نفوذ الولايات المتحدة في منطقة الساحل الأفريقي بعد الانقلابات العسكرية في كل من النيجر و مال و بوركينا فاسو.

 

يبدو أن قرار تجاهل هذه التجاوزات جاء في إطار استراتيجية أوسع للضغط على الطرفين للعودة إلى طاولة المفاوضات. اعتبرت الإدارة الأمريكية أن التصعيد ضد قوات الدعم السريع في هذه المرحلة الحساسة قد يعرقل جهود التوصل إلى حل سياسي ويزيد من تعقيد الوضع الأمني والإنساني المتدهور في السودان. واصلت الولايات المتحدة الأمريكية سياستها التي تساوي بين مؤسسة القوات المسلحة ومليشيا الدعم السريع رغم موقفها المعلن السابق ضد الجنجويد والجرائم التي ارتكبت في دارفور.

 

نشطت الدبلوماسية الأمريكية بالتعاون مع المملكة العربية السعودية لاحتواء الحرب في الخرطوم وجمع الطرفين على عجل. كان التركيز منصبًا على إيقاف الحرب والرجوع إلى العملية السياسية أو ما يعرف بالاتفاق الإطاري. اتفق ذلك الموقف مع موقف قوى الحرية والتغيير جناح المجلس المركزي التي رأت الحرب كمحاولة لإجهاض الاتفاق الإطاري الذي كان سيمهد رجوعها للسلطة مجددًا بعد الاتفاق مع القوى العسكرية.

 

فشلت كل محاولات إيقاف الحرب في جدة خصوصًا بعد استمرار احتلال الدعم السريع لمنازل المواطنين والمرافق المدنية العامة وهو الشرط الذي اتفق عليه الطرفان في جدة. تبعًا لذلك، لجأت الولايات المتحدة إلى سياسة العقوبات الاقتصادية في محاولة للضغط على الطرفين. لكن الهدف الأساسي من العقوبات كان حفظ ماء وجه الإدارة الأمريكية، خصوصًا وأن الجمهوريين في الكونغرس حملوا الإدارة مسؤولية الفشل الأمريكي في ملف إنجاح الديمقراطية في السودان.[17]

 

التزمت العقوبات الأمريكية بسياسة المساواة بين طرفي الحرب، رغم الانتهاكات الجسيمة لقوات الدعم السريع في الخرطوم ودارفور، ففرضت عقوبات على شركات تتبع للقوات المسلحة السودانية وشركات تابعة لمليشيا الدعم السريع. بالإضافة إلى ذلك، فرضت الإدارة الأمريكية عقوبات على عبد الرحيم دقلو، الأخ غير الشقيق لمحمد حمدان دقلو، والقائد الثاني لقوات الدعم السريع، كما فرضت عقوبات على عبد الرحمن جمعة قائد الدعم السريع في غرب دارفور بعد اشتراكه في الانتهاكات الإنسانية والتطهير العرقي في الجنينة. بالرغم من عدم فرض الأمريكيين لعقوبات على قيادات الجيش السوداني، إلا أنهم فرضوا عقوبات على علي كرتي، الأمين العام للحركة الإسلامية السودانية، معللين ذلك باشتراكه في تقويض العملية الديمقراطية بالسودان. لكن توقيت العقوبات على كرتي يدل على اقتناع الإدارة الأمريكية بدعاية قوى الحرية والتغيير وقوات الدعم السريع بتأثير الإسلاميين على الجيش ووقوفهم خلف اندلاع الحرب في الخامس عشر من أبريل.

 

مؤخرًا، يبدو أن هناك استجابة من وزارة الخارجية الأمريكية نتيجة للضغط المستمر من الكونغرس بسبب فشل سياسة منبر جدة والعقوبات. على الرغم من هذه الاستجابة، إلا أنه من الصعب رؤية أي تغيير جوهري في السياسة إذا استمرت الإدارة في وضع هذه القضية تحت إشراف مكتب أفريقيا. ستظل "مولي في" التي تشغل منصب مساعد وزير الخارجية للشؤون الاأفريقية، عنصراً رئيسياً في هذا الملف، حتى بعد رحيل السفير غودفري. هذا يعني أن السياسة الحالية التي شاركت في رعاية الاتفاق الإطاري والتي فضلت قوى التغيير والتقدم كالممثل المدني الوحيد ستظل مستمرة. الشاهد أن مولي في واصلت في موقفها المتحيز بالرغم من تصاعد الإدانات الدولية ضد جرائم الدعم السريع عالميا، ففي آخر جلسة استماع بمجلس النواب بالكونغرس  الأمريكي الخاص بلجنة أفريقيا بخصوص ميزانية الحكومة للقارة الافريقية في مايو المنصرم تم سؤال مساعدة وزير الخارجية للشؤون الأفريقية مولي في عدة اسئلة و كانت أجوبتها أشبه بالدفاع عن الدعم السريع. ففي اجابتها على سؤال  رئيس اللجنة العضو جون جيمس عن استهداف الدعم السريع للمدنيين في الفاشر و حصاره للفاشر، أجابت مولي أن الدعم السريع يشكل تهديدا للمدنيين و لكن الجيش يقوم بقصف المدنيين أيضا بالطائرات. في سؤال آخر من العضوة سارة جاكوبز عن الخطوات التي اتخذت من قبل الإدارة الامريكية لمنع تزويد المليشيا بالسلاح من الامارات، أجابت مولي أن الامارات والدعم السريع لديهم مخاوف من نفوذ الإسلاميين داخل الجيش السوداني.[18]

 

يعمل المبعوث الجديد، توم بيرييلو، تحت إشراف "مولي في" ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، وليس تحت إشراف الرئيس مباشرة. وهذا يعتبر تغييرًا يعزز من سيطرة مولي في على السياسة الأمريكية تجاه السودان، حيث أن المبعوثين الخاصين السابقين إلى السودان كانوا يتمتعون بإمكانية الوصول المباشر إلى الرئيس، مما يعكس مشاركة البيت الأبيض المباشرة في هذه القضايا. في ضوء التعيينات الجديدة والتغييرات في الهيكل الإداري، من الصعب أن نرى بيرييلو ينجح في الضغط على الإمارات العربية المتحدة والجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى دون وجود سلطة البيت الأبيض ومشاركته المباشرة. يتطلب النجاح في هذا المجال دعمًا قويًا ومستمرًا من أعلى مستويات الحكومة الأمريكية، وهو ما قد يكون مفقودًا في الترتيبات الحالية.

 

 

 

الخاتمة

من الواضح أن العقوبات الأمريكية على السودان اتخذت نفس النهج الذي شكل السياسة الأمريكية منذ اندلاع الصراع في السودان. هذا النهج يجرم الطرفين ويدعو للعودة إلى طاولة المفاوضات السياسية، متجاهلاً تماماً الأوضاع على الأرض والاتجاهات الشعبية التي تجرم الدعم السريع وتدعم القوات المسلحة. و لفهم مغزى السياسة الأمريكية تجاه السودان، يجب النظر إلى هذه الخطوة في سياقها الداخلي في الولايات المتحدة.

تعاني إدارة بايدن من ضغوط متلاحقة من خصومها الجمهوريين، خاصة مع بدء الاستعدادات للانتخابات الرئاسية القادمة في غضون عام. الجمهوريون، الذين يسيطرون على مجلس النواب، عطلوا العديد من مشاريع بايدن، آخرها كان تعطيل رفع سقف الدين الحكومي، مما هدد تمويل الحكومة بأكملها قبل الاتفاق الهش الذي تم التوصل إليه مؤخراً. كما تزايدت الضغوط من الجمهوريين فيما يخص السياسة الخارجية، مما دفع أعضاء لجنة العلاقات الخارجية من الجمهوريين في الكونغرس إلى إرسال رسالة استيضاح لوزير الخارجية عن أسباب فشل السياسة الأمريكية في السودان وفشل عملية إجلاء الأمريكيين العالقين هناك.

تاريخيا و في الغالب ما تُستخدم الإدارة الأمريكية سياسة العقوبات لحفظ ماء الوجه، خصوصاً عند فشل استحداث سياسات ناجعة و وجود خطاب من الكونغرس يضع الوزير أمام سقف زمني للرد على تساؤلاتهم.

نضيف أيضا أن  سيطرة الدوائر الليبرالية ومنظمات الضغط على تشكيل سياسة الولايات المتحدة تجاه السودان لفترة طويلة منذ أيام نظام الإنقاذ جعل من الصعب على المؤسسات الأخرى كالدفاع و المخابرات و الكونغرس تغيير هذه السياسة. استمر تأثير هذه المجموعات بعد انتفاضة ديسمبر، ولكنه لم يكن كبيراً خلال إدارة ترامب. تعاظم تأثيرها بعد انتخاب بايدن ورجوع الديمقراطيين للحكم، نتيجة للعلاقات القديمة بين الديمقراطيين وهذه المجموعات (مثل مجموعة سليمان بلدو وEnough Project). ويبرز هنا إصرار مساعدة وزير الخارجية للشؤون الأفريقية مولي في على تبني سياسة المساواة بين مؤسسات الدولة ومليشيا الدعم السريع كانعكاس لسردية قوى الحرية و التغيير و التي سميت لاحقا بتقدم.

لم تولِ حكومة بايدن اهتماماً كبيراً بالملف السوداني نظراً لظروف معقدة مثل جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية.

فعينت الحكومة الأمريكية و بعد تأخير طويل السفير الأمريكي جون غودفري في السودان في أغسطس، بعد عامين من تولي بايدن للرئاسة وبعد عام من أحداث أكتوبر 2021. هذا يعزز فكرة تراجع أولوية السودان في سلم أولويات الخارجية الأمريكية.

كما تراجع اهتمام البيت الأبيض والمؤسسات الأمنية بصنع السياسة الخارجية تجاه السودان، مما جعل السفير غودفري لاعباً أساسياً بلا منازع في السياسة الأمريكية تجاه السودان. شهدنا تراجع اهتمام البيت الأبيض الذي كان كبيراً أيام ترامب وأوباما.

و كما أوضحنا سابقا فقد تشكلت سياسة غودفري و مولي في بشكل كبير وفقاً لأحداث الخامس والعشرين من أكتوبر، ولعبت البعثة الأممية دوراً كبيراً في ضمان انسياق الموقف الأمريكي مع مشروع فولكر الإطاري آنذاك.

التوصيات

 

1. تشكيل مجموعات ضغط مناوئة: يجب تشكيل مجموعات ضغط ومنظمات في واشنطن لتبيين خطورة الخطاب الذي يساوي بين القوات المسلحة والميليشيا المتمردة.

2. خطاب إعلامي باللغة الإنجليزية: ضرورة نشر خطاب إعلامي باللغة الإنجليزية في المجلات والصحف الغربية والأمريكية ليوضح الحقائق على الأرض.

3. مخاطبة أعضاء الكونغرس: يجب مخاطبة أعضاء مجلسي النواب والشيوخ بصورة مباشرة ودعم المجهودات التي تدعو لمراجعة سياسة الولايات المتحدة تجاه السودان.



بقلم: ياسر زيدان عبده

طالب و باحث دكتوراة بجامعة واشنطن 


يمكنك كتابة تعليقك هنا

أحدث أقدم