تعرضت دول الجنوب العالمي في القرنين التاسع عشر
والعشرين الميلاديين للاستعمار من قبل الدول العظمى وقتها مثل بريطانيا، وفرنسا. كانت
هذه الدول تسعى لتقوية نفوذها ، والاستفادة اقتصادياً من استخراج الموارد في هذه
البلاد المحتلة. لكن الأقطار المستعمرة بدأت تنال استقلالها بعد نهاية الحرب
العالمية الثانية عام 1945. وقد صعَّدت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد
السوفياتي كقوتين عالميتين عقب الحرب العالمية الثانية إلى العام 1991، واندلع
صراع غير مباشر بينهما فيما عرف بالحرب الباردة. وتحول نمط الاستعمار ونهب الموارد
والسيطرة السياسية من الاحتلال المباشر, إلى فرض الوصاية السياسية والاقتصادية
بدعوى الحماية من الطرف الآخر.
ورغم توقيع عدد من الدول على إعلان باندونغ لعدم
الانحياز في العام 1955؛ فقد استطاعت القوتين العالميتين وضع العالم بشكل ما تحت
شروطها. ثم انتهت الحرب الباردة بتفكك الاتحاد السوفياتي، وهيمنة الولايات المتحدة
على المشهد تماماً. وتبعاً لهذه المتغيرات، تحولت أشكال الاستعمار، ونهب الموارد،
وتوسيع دائرة النفوذ إلى شكل جديد؛ وهو ما تقوم به دولة الإمارات العربية المتحدة
كمنوذج. ونحن نحاول في هذا المقال أن نوضح كيفية عمل هذا النمط الاستعماري عبر
دراسة الحالة الإماراتية.
كشف تقرير أممي دور الإمارات الفاعل والرئيس في إطالة
أمد الحرب بالسودان. لم يكن التقرير صدمة، بل أتى لتأكيد المؤكد على أرض الميدان،
والعديد من التقارير الصحفية التي أشارت لضلوع الإمارات في الصراع، ومد الدعم
السريع بالعدة والعتاد. والسودان ليس استثناء، ولا بمعزل عن طموحات أبوظبي التي
بدأت تتوسع بعد انتفاضات الربيع العربي. لكن ماذا تريد الإمارات العربية المتحدة؟
و كيف تفعل ذلك؟ وما العمل حيال هذه التدخلات؟
تمتلك الإمارات عدداً من الأسباب، والدوافع، والمبررات
للتدخل في هذه الصراعات:
أولاً: محاولة القضاء على الإسلام السياسي:
يعتبر القضاء على الإسلام السياسي أكبر دافع تتحرك به الإمارات. فقد تبع الربيع العربي صعود
نجم الإسلام السياسي في عدد من الدول كمصر، وتونس، وليبيا، واليمن، لكن هذا الصعود
لم يشكل تهديداً للامارات بقدر ما فعلت المذكرة[1] التي قدمتها جمعية الإصلاح والتوجيه الاجتماعي الإماراتية
في مارس من العام 2011. وقد مثلت مذكرة جمعية الإصلاح المرتبطة بجماعة الإخوان
المسلمين ناقوس خطر.ضمت المذكرة عدة مطالب سياسية من بينها: توسيع مشاركة
المواطنين في انتخاب المجلس الوطني الاتحادي، و منحه صلاحيات تشريعية، ورقابية. لم تكن المطالب هي المهدد فحسب؛ بل الشخصيات[2] التي تساند جمعية الإصلاح، ومن بينها أحد أبناء الأسرة
الحاكمة بإمارة رأس الخيمة، الشيخ سلطان بن كايد القاسمي، والذي اعتقل بعد عام من عريضة
الإصلاح. منذ ذلك الحين وضعت الإمارات
العربية المتحدة القضاء على الإسلام السياسي أحد أبرز أهدافها، بصورة مباشرة، أو
غير مباشرة؛ بالسلاح أو غيره.
وهذا ما يفسر التعامل العنيف والدعم المتواصل لقائد
الجيش الليبي، الفريق خليفة حفتر، للقضاء على أي نفوذ للإسلام السياسي، والذي قد
يشكل وصوله للسيطرة الكاملة على ليبيا معيناً لا ينضب من الدعم للإسلاميين في
العالم؛ فليبيا تمتلك كثافة سكانية منخفضة، و مقدرات نفطية عالية، مما يمكن من
يسيطر عليها أن يمول أي تنظيم أو حراك سياسي؛ كما كان يفعل القذافي.
وفي اليمن، انضمت الإمارات للتحالف الدولي لدعم الشرعية
وإعادة الرئيس عبد ربه منصور هادي، والقضاء على نفوذ جماعة الحوثي المرتبطة بإيران.
لكن الإمارات سرعان ما أظهرت هدفاً آخر: وهو إضعاف حزب التجمع اليمني للإصلاح[3] المحسوب على التيار الإسلامي، والتي يشكل جزءاً من
ائتلاف الرئيس هادي. تحولت الإمارات من دعم الشرعية ومكوناتها لتفتيتها و إضعافها
عبر دعم جماعات أخرى مناوئة لها.
وفي السودان عملت القوى السياسية التي استولت على الحكم
بعد الثورة على إضعاف الإسلام السياسي بالسودان اقتصادياً، عبر لجنة إزالة
التمكين، والمصادرات التي قامت بها لتجفيف مصادر تمويل الحركات الإسلامية
بالسودان. عملت اللجنة والقوى السياسية الحاكمة على إخراج الجيش من السوق، ومنح
وزارة المالية الولاية على أمواله، وهو ما لم تستطع الحكومة المدنية من إنجازه. ويعد
الجيش، أحد المؤسسات التي يتملك فيها التيار الإسلامي نفوذاً قويًّا، وهو ما يفسر
سعي الإمارات لدعم الفصيل المعارض له ( الدعم السريع).
ثانياً: السيطرة على المنافذ البحرية:
في بداية الألفية، سعت إمارة دبي للاستقلال اقتصادياً[4] عن إمارة أبوظبي. عملت دبي عبر محاور السياحة، وخلق
بيئة مساندة للأعمال الناشئة، والموانئ. ثم تلقت خطة دبي ضربة موجعة بالعام 2008
بفعل الأزمة المالية العالمية، واضمحل حلم الشقيقة الصغرى في العام 2020 بسبب تداعيات وآثار وباء الكورونا الذي ضرب
العالم، وأعاد دبي لدائرة نفوذ أبوظبي التي تمتلك النفط. خلال هذه الفترة، لم تتبع دبي خطى أبوظبي في عديد من
الملفات، مثل القوانين المضيقة على الجالية الإيرانية[5]. لكن وباء الكورونا منح
الأفضلية مرة أخرى لأبوظبي، وعمق اعتماد دبي عليها. عملت أبوظبي للمنافسة مع دبي،
في الاستحواذ على الموانئ، وتبعية دبي واقتصادها بالعلاقات الخارجية لأبوظبي،
واتخاذ الموانئ المنشأة أصلاً بواسطة دبي كوسيلة لتعميق الروابط السياسية والعسكرية بين أبوظبي و
تلك الدول. فمنذ العام 2020، وقعت موانئ أبوظبي عقوداً مع عدد من الدول من بينها
مصر والسودان و أنغولا. كما أن الإمارات عبر علاقاتها الجيدة مع روسيا، اجتذبت رؤوس الأموال الروسية لدبي[6]، مما ساهم في انتعاش قطاع
العقارات والأعمال، وفعلت نفس الشئ لإمارة الفجيرة باستخدام مينائها لإعادة تصدير
النفط الروسي. في المقابل وطدت أبوظبي علاقاتها مع موسكو عبر السماح لها من اتخاذ موانئ
دبي منصة لإعادة تصدير المواد والسلع ثنائية الاستخدام، في محاولة لتجنب العقوبات
الأمريكية.
مدفوعة بما فعلته بريطانيا قبل
عقود عدة، في الستينات والسبعينات، عندما
مكنت الشيخ زايد بن سلطان عبر النفط،
ومنحه واحة البريمي النفطية[7]، مما أضعف باقي الإمارات التي
كانت مستقلة نسبياً؛ فعلت السلطات في أبوظبي نفس الشيئ، ولكن عبر الموانئ. فها هي تسيطر على المواقع الاستراتجية في خارطة
الملاحة الدولية. فهي تسيطر على الجنوب
اليمني، و جزيرة سوقطرى مما يمكنها من التحكم بباب المندب، كما أنها تسعى لإحكام
قبضتها على الموانئ المصرية المتاخمة لقناة السويس، المعبر المؤثر في مجرى التجارة الدولية[8]. ويعد السودان هدفاً مهماً؛ إذ
يقع على البحر الأحمر، و يصلها بدولتي تشاد و جنوب السودان المحرومتين من المنافذ
البحرية. وهو منفذ مهم، ومحل تنافس بين جارتها الشمالية إيران و الكيان
الصهيوني[9].
ثالثاً: مقاومة الحبس الجغرافي:
عقب خروج الاحتلال البريطاني من
الإمارات العربية المتحدة في مطلع السبعينات، وضعت إيران يدها على ثلاث جزر إماراتية
( طنب الكبرى، طنب الصغرى، أبو موسى). و نظراً للقرب الجغرافي، و التفوق العسكري الإيراني
وقتها مقارنة بالدولة الحديثة، لم تسلك دولة الإمارات أي خطوات تصعيدية ضد جارتها الشمالية.
خلق احتلال العراق لدولة الكويت مخاوف للامارات من أن ترتكب إيران فعلة مشابهة
تجاه أراضيها. كما أن التقارب بين إيران والولايات المتحدة، والتقاهمات بخصوص الملف
النووي الإيراني زاد من القلق من احتمالية تخلي الولايات المتحدة عن المنطقة لصالح
الهيمنة الإيرانية[10] في حال حدوث أي اتفاق. ولمجابهة
هذا التخلي المحتمل؛ اتخذت الإمارات العربية المتحدة عدداً من التدابير. في الجانب
الأمني والعسكري، حيث انخرطت الإمارات العربية المتحدة في عدد من التحالفات
الدولية التي تقودها الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب[11]؛ مما يجعل التخلي عنها صعباً. وكذلك
تعاونت مع فرنسا، وفاغنر الروسية في الشرق الليبي، بحثاً عن شركاء أمنيين آخرين
غير الولايات المتحدة. و إن كانت مشاركتها في عملية عاصفة الحزم، للوقوف بجانب
المملكة العربية السعودية ضد الخطر الحوثي امتدادًا لتحالفها القديم، إلا أنها اتخذت
استراتيجية جديدة[12] تضمن لها حضوراً موازياً
للحضور الإيراني.
وفي الناحية السياسية، عملت أبوظبي
على تحسين علاقاتها مع أعداء إيران و أصدقائها على حد سواء؛ فقادت عملية التطبيع
مع اسرائيل، أكبر أعداء إيران في المنطقة، وفي الوقت ذاته عمقت علاقاتها مع روسيا،
أحد أكبر حلفاء إيران في المنطقة؛ وهو ما توج بدعم روسيا[13] للإمارات في حقها بالجزر
الثلاث.
وفي الجانب الاقتصادي، انشغلت الإمارات
بالاستفادة من الموانئ التي تتحكم بها في توسيع نفوذها على طرق التجارة، والسيطرة على
مصادر النفط والغذاء، ما أمكن. فقد وضعت عينها على النفط الليبي[14] لزيادة نفوذها في منظمة الدول
المصدرة للنفط (أوبك)، كما أنها ترى في اليمن والسودان مصدرين للأمن الغذائي،
الأول عبر القطاع السمكي، والثاني عبر القطاعين الزراعي والحيواني. وفي ذات
الوقت ورغم العداء البائن بين الدولتين، إلا أن أبوظبي تفضل الابتعاد مواجهة إيران ما أمكن[15]، رغم مطالبات واشنطون المتكررة
لأبوظبي بإدانة طهران علانية.
هذه هي الأسباب والدوافع التي
تحرك الإمارات للانخراط و أخذ دور فاعل في الصراعات. لكن التدخل أخذ أشكال عدة، ووسائل متختلفة لضمان غرس نفوذها في هذه الدول.
من تجارب اليمن، وليبيا، والسودان، يمكن استخلاص ثلاثة أشكال من التدخل، أو
التأثير. تعمل في أغلب الأحيان بشكل متكامل، ولا تعول الإمارات على شكل واحد من
أشكال التأثير. وهي كالآتي:
الدعم العسكري:
عملت القوات الإماراتية جنباً
إلى جنب مع قوات خليفة حفتر في الشرق الليبي، بل و نفذت ضربات[16] بالطيران المسير لأهداف وضعها
الجيش الوطني الليبي. كما وفرت غطاء برياً
لعملياته. كذلك انخرطت عسكرياً في اليمن، بشكل مباشر عندما كانت تقاتل لتحقيق
أهداف التحالف الساعي لإعادة الحكومة الشرعية، لكنها انسحبت من التحالف، وباتت
تقدم الدعم العسكري بصورة غير مباشرة عندما تغيرت أهدافها من دعم الشرعية لتثبيت
دعائم حلفائها المحليين، مثل قوات الحزام الأمني[17] وغيرها. كما تتفادى دولة الإمارات الانخراط المباشر مع
القوات التي تعتبر شرعيتها محل جدال، و تسعى لإمدادها بصور غير مباشرة، مثلما تقوم
به الآن من إمداد للدعم السريع عبر مطار أمجرس تحت غطاء الدعومات الإنسانية[18]. وهو دعم ربما كان ليصبح
علنياً، لو نجح محمد حمدان دقلو في القبض على قائد الجيش عبدالفتاح البرهان، و
إعلان بيان استلام السلطة عبر أحد كبار الضباط المحتجزين، و توقيع الاتفاق الإطاري
كما أشارت بعض التحليلات.
الدعم السياسي:
شكلت دولة الإمارات العربية
المتحدة ملاذاً للعديد من النخبة اليمنية الجنوبية، والتي غادرت البلاد بعد توحيد
شطري اليمن، في العام 1990. ثم شكلت هذه النخب، بمعية بعض القوى الجنوبية الأخرى الغطاء
السياسي الذي يعمل من خلاله المجلس الانتقالي الجنوبي[19] الذي تدعمه الإمارات في فرض
السيطرة والإحكام على الجنوب اليمني، حتى على حساب الحكومة الشرعية[20]. وفي ليبيا، حصل مجلس النواب
الليبي ( برلمان طبرق) على دعم ومساندة
دولة الإمارات العربية، وهو الكيان المتحالف مع الجيش الوطني الليبي، بل و يستمد
شرعيته من هذا البرلمان. أما في حالة السودان، يعود الدعم الإماراتي لبعض القوى
السياسية الموقعة على إعلان الحرية والتغيير منذ الفترة الانتقالية. كانت هذه
القوى تتحصل على الأموال بشكل مباشر، أو عن طريق الدعم السريع كما بينت بعض التقارير الأوربية[21]. وقد تجنبت لجنة إزالة التمكين النظر في
الامبراطورية المالية الصاعدة للدعم السريع، بل إن وزيرة المالية السابقة، د. هبة
محمد علي، بينت أن الدعم السريع يدفع ضرائبه بصورة منتظمة؛ مع تأكيدها على أن
الشركات لا تتبع للدعم السريع، وإنما لأفراده[22]. بل يعتبر موقف بعض القوى السياسية الداعم
للمبادرة الإماراتية حول الفشقة دليلاً آخر؛ فقد أيدت بعض القوى المنضوية تحت لواء
الحرية والتغيير، والعاملة في الحكومة الانتقالية تمرير المقترح الإماراتي الذي
يقسم منطقة الفشقة السودانية بنسبة 40% للسودان، و 40% للاستثمار الإماراتي، و 20%
للمزارعين الإثيوبيين. لكن الوساطة قوبلت برفض شعبي، و رسمي من بعض مكونات سلطة
الفترة الانتقالية – مثل مالك عقار ، عضو مجلس السيادة، الذي وصفها بالسخيفة[23]. كما أن إقامة رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك
بأبو ظبي، و عمله بأحد مراكزها البحثية،
شكل نوعاً من أنواع النفوذ الحصري للإمارات على الشأن السوداني، باعتبار أن الرجل
لا زال يتمتع برأس مال اجتماعي لدى العديد من السودانيين، والمجتمع الدولي؛ وهو ما
يفسره التقارب والتوقيع الذي تم بين كتلة القوى المدنية تحت قيادة حمدوك، والدعم
السريع بأديس أبابا مطلع يناير من العام الحالي.
الدعم الإقليمي والدولي:
تسعى الإمارات لتمكين حلفائها، أو وكلائها في الدول المعنية
عبر السعي لمنحها شرعية واعترافاً دوليين بشتى السبل. في ليبيا مثلاً، كانت الإمارات
تسعى لتحقيق ذلك عبر المبعوث الأممي بيرناردينو ليون، الذي شغل المنصب لأشهر عدة بين العامين 2014\2015، بالتوصل لاتفاق يمنح
حفتر والمتحالفين معه الغلبة في الترتيبات السياسية المدعومة دولياً. لكن صحيفة القارديان البريطانية[24]، في نوفمبر من العام 2015، كشفت عن مراسلات بين المبعوث الأممي (عبر بريده
الشحصي)، ووزير الخارجية الإماراتي، عبدالله بن زايد، يخبره فيها المبعوث أنه يسعى
لتفتيت التحالف بين تجار مصراتة والإسلاميين، وأنه يعمل على خلق اتفاق ملائم للقوى
التي تدعمها الإمارات ممثلة في مجلس النواب الليبي. المثير للانتباه أن المبعوث
الأممي حصل على وظيفة رفيعة بأحدى المعاهد الدوبلماسية الإماراتية فور استقالته من
مهمة ليبيا. وفي السودان، خرجت الإمارات من الفاعلية الدولية منذ انخراط الطرفين
في مفاوضات جدة، والتي ترعاها المملكة العربية السعودية، والولايات المتحدة. لكن الإمارات
سعت لاستعادة نفوذها الدولي، وذلك عبر تحركاتها لإحياء مبادرة الإيقاد، التي تقع
العديد من دولها تحت نفوذ الإمارات، مثل إثيوبيا وكينيا وأوغندا. ولعل هذا تبين من
الجولات الإقليمية التي قام بها محمد حمدان دقلو إلى هذه الدول، والاسقبال الرسمي الذي حظي به. كما أن دعوته لحضور قمة الإيقاد المعنية بقضية
ميناء صوماليلاند يصب في هذا التفسير.
لكن ما الذي يمكن للسودان أن
يفعله لمواجهة هذا التمدد، والحد من التمدد الإماراتي في الشأن السوداني؟
أولاً: المواجهة والمساومة:
لن تنقطع مطامع ومصالح الإمارات
في السودان بالقضاء على الدعم السريع. فالدعم السريع إحدى الأدوات التي تسعى الإمارات
باستعمالها لتنفيذ أهدافها. فينبغي على الدولة السودانية ممثلة في الجيش، ووزارة
الخارجية مواجهة الإمارات بهذه العواقب. فالمصالح الإماراتية من ناحية الأمن الغذائي
مرتبطة بالمناطق التي تخضع لسيطرة الجيش[25]. وحتى الثروة الحيوانية
والزراعية الموجودة بالإقليم الغربي، وبقية المناطق التي يسيطر عليها الدعم السريع
بحاجة للمرور عبر بورتسودان، وهو أمر لن
يتحقق والإمارات تدعم قوات الدعم السريع. كما ينبغي تذكيرها بأن عدم استقرار
السودان و اضطرابه سيضر بمصالحها في الجارة الشرقية إثيوبيا، والتي ترتبط بالأمن
الغذائي كذلك، والذي تمظهر في الوساطة حول الفشقة كما أشرنا سابقاً. كما أن
التذكير بحصرية المنفذ البحري للسودان على الجانب الذي يسيطر عليه الجيش، سيبين أن
تبني نموذج ليبي آخر صعب التحقيق. و قد أثمرت الضعوطات[26] من الغرب الليبي لحكومة
الدبيبة لخفض الإمارات للتصعيد، ولو نسبياً، وذلك بعد قطعها الدعم المادي عن
العديد من القنوات الليبية الداعمة لحفتر، مما تسبب في إغلاقها.
ثانياً: كشف التورط:
تتبنى الإمارات منهج
الدوبلماسية الناعمة في العالم الغربي، و تسعى لتحسين صورتها هناك عبر دفع ملايين
الدولارات لشركات العلاقات العامة[27]، وجماعات الضغط الأمريكية. و
تنفق سفارتها في واشنطون بسخاء شديد على المراكز البحثية التي تساهم في صنع القرار
مثل: المجلس الأطلنطي[28]، مركز الدراسات الاستراتيجية
والدولية. وتتجنب الإمارات كل ما من شأنه دمغ صورتها بسوء.على سبيل المثال، دعت
وزارة الخارجية السفير التشيكي بأبوظبي لعرض طائرات مقاتلة ابتاعتها أبوظبي من
براغ، وذلك بعد رواج تقارير تثبت استخدامها للقتال في ليبيا[29]، مما يعني كسر حظر الأسلحة. عبر هذه الورقة، رسمياً و شعبياً، ينبغي على
السودانيين كشف النشاط الإماراتي للدوائر الغربية، وتوضيح تبعاته على تهديد
الاستقرار في المنطقة. كما يقع على كاهل السودانيين مزدوجي الجنسية في دول الاتحاد
الأوربي، بريطانيا، أمريكا، كندا، واستراليا دور كبير. فهم أقدر على التواصل مع
صناع القرار والمشرعين، و ممثليهم للكشف عن التورط الإماراتي في انتهاكات حقوق
الإنسان، و جرائم الحرب، و تفنيد الحجج التي يروج لها الدعم السريع خارجياً
بمحاربته للتطرف -والتي إن لم تمنح الدعم السريع أفضلية فهي تساوي بين القوتين في
العقوبات والتعامل. كما أن الدوبلماسية السودانية منوط بها الاجتهاد بعيداً عن
السعي لتوصيف الدعم السريع جماعة إرهابية، بل التواصل مع الكيانات الدولية،
والإقليمية للتوضيح مصادر تمويل الدعم السريع، و كيفية تفاديه للعقوبات عبر
أبوظبي. وهو أكثر شيئ تخاف عليه الإمارات:
صورتها العامة.
ثالثاً: البحث عن حلفاء:
رغم أنه من البداهات، لكن
السبات العميق الذي تغط فيه وزارة الخارجية السودانية، يحتم الحديث في هذا. فالتهديد
الذي تشهده البلاد يهدد الجميع، بما فيهم الولايات المتحدة، والاتحاد الأوربي،
والسعودية، ومصر. فبسيطرة الدعم السريع، سينتشر النفوذ الروسي أكثر فأكثر في منطقة
السهل الأفريقي، مقابل اضمحلال للنفوذ الأمريكي. بل إن تشاد، الدولة الدائرة في
الفلك الغربي، ستكون عرضة للانهيار إن استحكم للدعم السريع الأمر؛ مما يعني أن
روسيا قد بسطت سيطرتها بالكامل. شمالاً، أما فيما يتعلق بالاتحاد الأوربي، ينبغي
التذكير بملف الهجرة غير الشرعية الذي يمثل المهدد الرئبس لدول أوربا، و يمينها
الصاعد. فقد حصلت غانا على مئة مركبة مدرعة[30] في الأشهر الماضية من الاتحاد
الأوربي لمكافحة الهجرة غير الشرعية. كما أن مصر معنية إلى حد كبير بهذا الملف؛
ليس لمشكلة مياه النيل فحسب، بل لأن الدعم السريع على علاقة مريبة بعدوتها
إثيوبيا، ولم ينخرط في استرداد الفشقة، المنطقة المتنازع عليها بين البلدين. كما
أن التوجه نحو السعودية أمر في غاية الأهمية لارتباط الأمر بأمن البحر الأحمر، والمصالح
الاقتصادية المشتركة مثل التنقيب على البحر الأحمر، و ما يمثله السودان من ميزة
تفضيلية لمشاريع الأمن الغذائي السعودي. ربما ينبغي النظر لما فعلته جمهورية الصومال،
بعد الاتفاق بين إثيوبيا و إقليم صوماليلاند، والاتصال بالدول المعنية بالأمر؛
سواء أكانت معادية لإثيوبيا، أو حليفتها.
“Say a man slaps a woman in Paris, another man does the same in
Khartoum and a third man does it in Kwazulu Natal. All three women protest: the
woman in Paris protests the violation of her rights, the one in Khartoum that
of her dignity, and the one in Kwazulu Natal that of custom.”
النص
مقتبس من كتاب الدكتور محمود ممداني: المواطن والرعية. هو رسالة للقوى السياسية السودانية، المتوفقة
على نظيراتها باليمن و ليبيا بالتجربة، والتي أعمتها السلطة الوقتية ومكاسبها عن
تحقيق تسوية شاملة تمنع البلاد من الانهيار؛ عاركوا الإسلام السياسي لأسبابكم، لا لما تريده
أبوظبي.