ملخص:
يحاول هذا المقال عبر الاستناد على عدد من الأوراق والدراسات والتقارير غير المترجمة تناول أهم معالم الآثار الاقتصادية للحرب حتى شهر مايو 2024، ويستند بالأساس على ورقة "الأثر الاقتصادي للنزاع الجاري في السودان: مآلاته على النشاط الاقتصادي والمنظومة الزراعية-الغذائية والفقر" التي كتبها خالد صديق ومريم معروف ومصعب أحمد في أغسطس من العام الماضي، ثم سأحاول مقاربة أثر التطورات التي طرأت بعد كتابة الورقة على الاقتصاد.
تستعمل ورقة "الأثر الاقتصادي للنزاع الجاري في السودان" نموذجًا اقتصاديًّا يُعرَف بإطار نمذجة "مصفوفة المحاسبة الاجتماعية" المضاعِفَةSocial Accounting Matrix (SAM) Multiplier modeling framework، وتقول أنّ: "النماذج المستندة على مصفوفة المحاسبة الاجتماعية مناسبة خصيصًا لقياس الأثر قصير الأمد والآثار غير المباشرة للصدمات الاقتصادية غير المتوقعة ومباغتة الطروء، كالصدمات المتصلة بالحرب الجارية في السودان. توفر هذه النماذج آلية قوية تساعد في قياس أثر التغيرات على الطلب النهائي على السلع والخدمات، وتساعد هذه الأدوات النمذجية في قياس كل من التأثيرات المباشرة وغير المباشرة على الإنتاج القومي والقطاعي، ودخل الأسر، والتغيرات في مستويات التوظيف [ ... ] وتستوعب مصفوفة المحاسبة الاجتماعية للسودان 77 قطاعًا إنتاجيًّا و 79 نمطًا من السلع". وعبر هذا النموذج تتنبأ الورقة بآثار الحرب على كل من الإنتاج والتصدير والاستيراد، وعلى كل قطاع من القطاعات الاقتصادية، وعلى الناتج المحلي الإجمالي والتوظيف، وعلى المنظومة الزراعية-الغذائية، وعلى دخل الأسر والفقر، كما تستصحب الإجراءات الحكومية والدولية التي شُرِّعَت لتخفيف هذه الآثار.
نلاحظ أنّ الورقة تتنبأ بالوضع الاقتصادي في حال استمرت الحرب حتى آخر العام 2023، ما يعني أنّ التطورات ما بعد ذلك غير متضمّنة، فسيحاول هذا المقال بالإضافة إلى عرض نتائج الورقة أن يتلمس التطورات الاقتصادية والعسكرية ما بعد فترة الورقة ومقاربة الآثار الجديدة التي ألحقتها بالوضع الاقتصادي.
المقدمة:
ظلّ الوضع الاقتصادي والسياسي في السودان في اضطراب مستمرّ منذ الانتفاضة الشعبية على نظام عمر البشير في أواخر العام 2018، فبعد سقوط عمر البشير وتكالب الأحزاب السياسية والقيادات العسكرية على السلطة لم يُحَلّ سؤال الشرعية السياسية بأي جواب مستدام مرضٍ، وظلت "حالة الاستثناء" التي اكتسبت الأحزاب والقيادات العسكرية عبرها السلطة قائمة دون جهد حقيقيّ في التأسيس لوضع دستوريّ شرعيّ، فلا انتخابات ولا مجلس أعلى للقضاء ولا مجلس تشريعيّ، وانعكس هذا الصراع على السلطة في عدم استقرار سياسي مستمرّ كان له مآلاته الاقتصادية السلبية على البلاد، فمنذ العام 2019 أعيد تصنيف السودان من دولة متوسطة-أدنى في الدخل إلى دولة منخفضة الدخل، وظلّ الناتج المحلي الإجمالي في السودان في انخفاض مستمرّ منذ العام 2018، كان متوسط نموّه -2.3% في العام في الفترة من 2018-2022، وانخفض الناتج المحلي الإجمالي بالنسبة للفرد بمتوسط 5.4% في السنة من العام 2018 إلى العام 2021، وبمتوسط 3% في السنة منذ العام 2012 بعد انفصال جنوب السودان.
بطبيعة الحال ليس ذلك منفصلًا عن الأزمة السياسية التي لاحقت السودان منذ استقلاله، فهو دولة ما بعد استعمارية وَرِثت –شأنها شأن معظم الدول التي تعرضت لتجربة الاستعمار- مشاكل هيكلية طويلة الأمد ولم تزل مصابة بجرثومة كل ما تلى ذلك من نزاعات قبلية، وعدم استقرار سياسي، وفشل تنموي، مرورًا بانفصال الجنوب ثم وصولًا إلى المليشيا الغاصبة التي على يدها لأول مرة يندلع نزاع في قلب العاصمة نفسها يُهجَّر فيه 8 مليون شخص من العاصمة، وملايين آخرون من سواها، وتُسلَب أموالهم وأراضيهم، وتُرتكَب في حقهم مجازر ومقتلات، "متلازمة السودان" كدولة ما بعد استعمارية منطوية على إشكالات هيكلية أمر قديم، بلغت ذروتها في النزاع الجاري، ويمكن تتبع منابعه إليها.
دخلت معركة الدولة السودانية وقواتها المسلحة مع مليشيا الدعم السريع شهرها الثالث عشر، أفسدت خلالها النشاط الاقتصادي في الخرطوم وغيرها من ولايات البلاد، وقلّصت الوصول إلى الخدمات العامة، وقطعت مصادر رزق ملايين المواطنين، وضيّقت بشدة الوصول إلى المرافق الصحية والتعليم والخدمات المصرفية، وأدت إلى ندرة في السلع الغذائية في العديد من أنحاء البلاد، وإلى زيادة هائلة في أسعارها في الأنحاء الأخرى، كما دمرت بنى تحتية أساسية من مصانع ومرافق صحة وتعليم، ونجمت عنها كارثة إنسانية هُجِّر فيها ملايين السودانيين إلى داخل وخارج البلاد بحثًا عن الأمن والعمل ليعولوا ذويهم، قبل أن تطاردهم حرب المليشيا لتحملهم على النزوح مجددًا وفقدان عملهم مجددًا.
تاريخيًّا أدت الاضطرابات السياسية في السودان لحالات طويلة من نقص الغذاء وانخفاض الإنتاجية الزراعية وانخفاض في مساهمة [القطاع الزراعي] في نمو الناتج المحلي الإجمالي. كما أنّ النزاعات ألحقت الضرر بالبنى التحتية ما يتضمن أنظمة الريّ وشبكات الكهرباء، كما أنها أعاقت المواصلات والوصول إلى الأسواق والسلع الأساسية. قبل اندلاع النزاع الحالي أشارت التقديرات إلى أنّ تكلفة الأضرار التي ألحقتها النزاعات السابقة بالبنى التحتية تتجاوز مليارات الدولارات، وعليهِ من المتوقَّع أنّ تتضاعف الأضرار والخسارات التي وقع معظمها في عاصمة البلاد تضاعفًا هائلًا نتيجة هذا النزاع.
هذا النزاع الأول من نوعه في البلاد، حيث وقع معظمه في العاصمة الخرطوم بادئ ذي بدء، بما تنطوي عليه من الجزء الأكبر من قطاع الخدمات والبنى التحتية والتعليمية، وقطاع الصناعات، وينعكس ذلك على التقديرات البحثية لمدى الأضرار الاقتصادية الناتجة عن النزاع الحالي.
الآثار على المستوى الكلي:
مع استمرار النزاع من المتوقع أن يستمرّ التضخم في الارتفاع، وأن ينكمش الاقتصاد نتيجة الاضطرابات في الإنتاج (خاصة في القطاع الصناعي وقطاع التنقيب عن الذهب)، والاضطراب في التجارة (خاصة في استيراد الغذاء وتصدير الذهب والمواشي)، وفقدان الوظائف (خاصة في ولاية الخرطوم، وأيضًا في معظم الولايات الغربية والجنوبية)، وفي الاستثمار وفقدان رأس المال البشريّ نتيجة النزوح والهجرة. أدت الحرب سلفًا إلى انخفاض وفرة السلع الغذائية الأساسية في الأسواق المحلية ما أدى إلى ارتفاع هائل في أسعار الغذاء. منذ اندلاع الحرب في الخامس عشر من أبريل ارتفعت أسعار السلع الأساسية كالمياه المعبَّأة والأغذية والوقود بنسبة 40-60 بالمئة في المناطق المتأثرة بالنزاع. وفي مايو ازدادت تكلفة سلة الغذاء المحلية التابعة لبرنامج الغذاء العالمي WFP بنسبة 18 بالمئة أعلى مما كانت في أبريل، عقبتها زيادة بنسبة 8.7 بالمئة في يونيو.
تأثرت الشركات المحلية والدولية بالنزاع الجاري، فالعجز عن إيصال السلع الأساسية المصدّرة سيزيد عجز الميزان التجاري للسودان وعجز الميزانية الكليّ زيادة ضخمة. وتوقفت عمليات العديد من المجموعات التجارية المحلية الرائدة كمجموعة دال ومجموعة حجار ومجموعة يعقوب (صالح عبد الرحمن يعقوب)، خاصة في الخرطوم. وتشير الاستبيانات إلى أنّ 13 بالمئة من شركات تصنيع الأغذية في السودان توقفت نهائيًّا عن العمل، بينما 53 بالمئة توقفت عن العمل مؤقتًا، و 20 بالمئة تعمل بحجم أصغر، أما حالة موظفيها فأشار 47 بالمئة من الشركات التي استجابت إلى أنها منحت موظفيها إجازة غير مدفوعة، بينما 20 بالمئة منها أقالت موظفيها، و7 بالمئة فقط منها منحت موظفيها إجازة مدفوعة.
كما أنّ للحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع أثرًا كبيرًا آخر على القطاع المالي. فقد بلغ الإنفاق العسكري على الحرب في دارفور خلال السنين ما بين 2004-2009 ما يُقدَّر بـ 1.7 مليار دولار في السنة الواحدة، والحرب الحالية أشدّ حدة وأوسع نطاقًا وأكبر تكلفة. كما أنّ زيادة الإنفاق العسكري بمصاحبة الانخفاض المتوقَّع في عوائد البلاد نتيجة الحرب (الناجم عن اضطراب التجارة والإنتاج) سيزاحم النفقات الحكومية الأخرى، كمستحقات موظفي القطاع العام والتي مثلت 30 بالمئة من الإنفاق الكلي في العام 2022. لم تُدفَع الرواتب والأجور حتى الشهر الرابع منذ اندلاع النزاعات في أبريل 2023. من المتوقَّع أيضًا أن تتأثر النفقات التنموية الأخرى كالتعليم والصحي تأثرًا ضخمًا نتيجة الحيّز المالي الضعيف وغياب الخطط البديلة لجمع العوائد. ومع استمرار الحرب من المتوقَّع أن تموّل الحكومة عجزها عبر طباعة العملة لتلبية واجباتها، ومن المحتمل أن يؤدي ذلك إلى مستويات غير مسبوقة من التضخم.
-ما بعد الورقة:
بلغ تآكل قيمة العملة المحلية بتاريخ مايو 2024 ما يربو على 160% حيث كان سعر صرف الدولار الواحد يعادل 570 جنيهًا قبل اندلاع الحرب بين الجيش والدعم السريع، بينما يزيد الآن على 1600 جنيهًا وهو ما أدى إلى ارتفاع السلع والخدمات بصورة جنونية، وهو مما يوافق تنبؤات الورقة، وأشارت مصادر حكومية أنّ ذلك كان ناتجًا عن تمويل العمليات العسكرية إضافة لاستيراد سلع غذائية لسدّ الفجوة من سكر وشاي ولبن ودقيق، ومع اتساع رقعة حرب المليشيا على الدولة واستمرار دخول الإمداد لها يمكن توقّع استمرار التضخم مع استمرار حاجة الجيش السوداني تمويل العمليات العسكرية.
وصرح وزير التجارة والمعادن الفاتح عبد الله يوسف بتاريخ 18 مايو 2024 أنّ عجز الميزان التجاري في الربع الأول فقط من العام بلغ 4.8 مليار دولار، وأنّ الصادرات في الربع الأول قفزت إلى 3.8 مليار دولار في ما بلغت الواردات 8.6 مليار دولار. وأشار إلى أنّ العجز التجاري في 2022 بلغ 6.7 مليار دولار ليرتفع إلى 7 مليارات دولار. وفقدت الخزينة العامة 700 مليون دولار وخمسة ملايين رأس من الماشية.
وحذَر صندوق النقد الدولي من انكماش كارثي للاقتصاد السوداني بنسبة 18.3% في العام 2024 نتيجة النزاع الجاري.
الآثار على المستوى الجزئي:
إن الانخفاضات المتوقّعة للنشاطات على مستوى كل قطاع تستند على درجة تأثر مناطق النشاط بالنزاع، وستعتمد الصدمة بالنسبة للسلعة على درجة مركزية الإنتاج ومدخلات الإنتاج بالإضافة إلى درجة حدة النزاع في كل ولاية منتجة للسلعة. فعلى سبيل المثال يمكننا افتراض أنّ السلع التي تنتج في الخرطوم بشكل رئيسي (وهي ولاية ذات درجة عالية من حدة النزاعات) ستواجه مستوى عالٍ من الصدمة مقارنة بالسلع التي تنمو\تُنتَج في الولايات الأخرى.
من المتوقع أن يتأثر الإنتاج الزراعي والصناعي بالحرب تأثرًا معتبرًا، إذ أنها فاقمت تهالك البنى التحتية المتهالكة سلفًا من بنى الإنتاج والتسويق والتخزين والخدمات اللوجستية الداخلية الخاصة بالإنتاج الزراعي والصناعي في جميع المناطق المتأثرة بالنزاع. وعلى الرغم من أنّ بعض المحاصيل لم تتأثر بالنزاع بسبب حصادها قبل اندلاع النزاعات في أبريل، فالوصول المحدود إلى السوق وغياب الأمن والانتشار الواسع للنهب سيؤثر على تخزينها ومن المحتمل أنّ يَحُدّ من القرارات الإنتاجية حيال السلع الأخرى.
لقد تأثر القطاع الصناعي والذي يتركّز بدرجة كبيرة في الخرطوم تأثرًا هائلًا بالنهب، ما يدلّ على أنّ استئناف الإنتاج سيكون تحديًا صعبًا بسبب الخسارات الضخمة في السلع الرأسمالية ومعدّات الإنتاج حتى في أكثر السيناريوهات تفاؤلًا لانتهاء الحرب.
النطاق الحالي للنزاع وقت كتابة الورقة كان يتضمن 10 ولايات هي: الخرطوم وشمال كردفان وشمال دارفور وغرب دارفور وجنوب دارفور ووسط دارفور وشرق دافور وجنوب كردفان وغرب كردفان والنيل الأزرق، وانضمّت إليها بعد ذلك ولاية الجزيرة وولاية النيل الأبيض وولاية سنار، مع تفاوت في مدى حدة النزاع، بيدَ أنّ الإنتاج تأثر في جميع هذه الولايات وتأثرت الحركة التجارية بسبب الوضعية الأمنية وانتشار النهب ونقص الكهرباء والوقود ومدخلات الإنتاج والتمويل.
-ما بعد الورقة:
مثّل دخول مليشيا الدعم السريع إلى ولاية الجزيرة مرحلة جديدة من الحرب، فالولاية تحتضن أكبر المشاريع المروية في السودان "مشروع الجزيرة"، ومثلت عاصمة الولاية مدينة ود مدني السوق المركزي في البلاد بعد اندلاع الحرب إذ انتقلت إليها معظم فروع البنوك ومصانع تصنيع الأغذية والخدمات الصحية والمنظمات غير الحكومية المحلية منها والدولية، واستأنفت معظم الجامعات والمؤسسات التعليمية عملها هناك، وكانت ود مدني في العموم قلب الحركة التجارية بمختلف عناصرها في السودان، كما احتضنت مدني ملايين النازحين من ولاية الخرطوم التي حاولوا استئناف أعمالهم التجارية أو العمل البدني ليعولوا به أسرهم.
خلّفَ دخول مليشيا الدعم السريع للولاية تدميرًا ممنهجًا لكل النشاطات المدرّة للربح أو الإنتاج، فبدءًا من نهب الأسواق عند الدخول، ثم نهب الأملاك من أموال وعربات وغيرها من أشكال المدخرات، ثم تدمير البنى التحتية الصحية والتعليمية والصناعية، واغتصاب البنوك، وصولًا إلى فرض الإتاوات على معظم أشكال الحركة من دخول أو خروج، ثم التوسع في قرى الجزيرة الزراعية، حدّ القضاء شبه الكامل على كل أشكال النشاط الاقتصادي؛ كل ذلك له لا محالة آثار بالغة على كل من إنتاج المحاصيل وزراعتها وتخزينها، إضافة لحركتها التجارية، إضافة للخسائر البالغة للمؤسسات العامة والخاصة، والمحلية والدولية، والمواطنين مزارعين وغيرهم.
الآثار على الإنتاج:
إنّ القطاع الزراعي يواجه صدمات هائلة في الإنتاج بسبب الحرب. هنالك موسمان رئيسيان في السودان: الصيف والشتاء. حُصِدت بعض المحاصيل قبل بداية النزاعات في أبريل (مثلًا عادة ما يُحصَد القمح في مارس). ولكن تحت أكثر السيناريوهات تفاؤلًا فحتى إذا توقفت الحرب مباشرة فإن أثرها على موسم الصيف سيكون أثرًا معتبرًا. فمن المتوقع أنّ نقص الكهرباء والوقود والبذور المحسّنة والمخصِّبَات والتمويل سيستمرّ لفترة حتى لو انتهت الحرب نظرًا للحيّز المالي المتوقع أن يكون محدودًا. وعليهِ فالمحاصيل الزراعية التي يُفترَض حصادها في موسم الصيف ستتأثر تأثرًا هائلًا حتى إذا عادت الأوضاع إلى سابق عهدها قبل نهاية السنة. وفي بعض الولايات كشمال كردفان كان أثر النزاعات أضخم في المناطق الأكثر إنتاجية، فغربيّ وجنوبيّ الأبيض تأثرت أكثر مقارنة بالمناطق الأقل إنتاجًا في شمال الأبيض.
ومع الظروف غير المسبوقة في البلاد والمخاوف المتنامية بتأثر الموسم الزراعي الصيفي بالحرب، فقد بُذِلت جهود من السلطات الحاكمة (متمثلة في الحكومة السودانية، ووزارة المالية والتخطيط الاقتصادي، والبنك المركزي السوداني، ووزارة الزراعة والغابات، ووزارة الموارد المعدنية)،ومنظمات الأمم المتحدة (متمثلة في الفاو)، والبنوك التنموية والبنوك التجارية (مصرف المزارع التجاري، وبنك النيل) للتعامل مع أثر الحرب على الموسم الزراعي (ما بين يوليو وأكتوبر من العام 2023)، عبر توفير البذور والوقود والمعدات الزراعية والتمويل. ووفقًا لوزارة الزراعة والغابات الاتحادية فمجموع المنطقة المراد زراعتها في الموسم الزراعي من 2023 كانت 63 مليون آكر، ستُزرع أربعة ملايين منها ذرة رفيعة وفول السوداني وسمسم وقطن وعبّاد شمس في المناطق المروية، و 59 مليون في المناطق المطرية. البيانات المتاحة حول المناطق المزروعة حتى الآن شحيحة، ولكن نظرًا للتحديات التي يواجهها هذا القطاع حاليًّا من المتوقع أنّ تكون المناطق المزروعة فعلًا في موسم الصيف أقلّ من 63 مليون آكر التي أعلنتها وزارة الزراعة الاتحادية.
ابتدأت منظمة الأغذية والتنظيم الزراعي (الفاو) التابعة للأمم المتحدة حملات لتوزيع البذور على المزارعين هادفة الوصول لأكثر من مليون مزارع معرّض [لآثار الحرب] بحوالي 10,000 طن من حبوب الذرة الرفيعة والدخن والفول السوداني والسمسم لتُزرَع في 17 ولاية. بتاريخ 17 من يوليو من العام 2023 بلغ التوزيع الفعلي 3,300 طن من الحبوب في [ولايات] النيل الأزرق والقضارف وكسلا وسنار والنيل الأبيض والبحر الأحمر وجنوب كردفان وشمال كردفان. على الصعيد الآخر ابتدر البنك المركزي للسودان ضوابط مؤقتة تسمح للبنوك بالتمويل لتسهيل الموسم الزراعي الصيفي، وتضمنت هذه الضوابط الآتي:
1. السماح بتجاوز نسبة التركيز المالي بالتنسيق مع الإدارة التنفيذية للبنك.
2. إلزام الزبون الطالب للتمويل في حالة وجود تخلف أو تأخير سابقَين في الدافع بإرفاق رسالة من الرابطة أو المنظمة الزراعية التي ينتمي إليها تصرّح بعضويته فيها.
القطاع الزراعي-الصناعي حاليًّا تقوده صناعة السكر وطحن الحبوب، مع مستويات منخفضة من تصنيع السلع الزراعية الأخرى كاللحم والبذور الزيتية. علاوة عل ذلك فالتصنيع واسع النطاق متركز في ولاية الخرطوم، مع نشاطات تصنيع أصغر نطاقًا نسبيًّا في ولايتَي نهر النيل والنيل الأبيض. على الصعيد الآخر فالتنقيب عن خام النفط والغاز الطبيعي وخامات المعادن والأنماط الأخرى من التنقيب منتشر في ولايات مختلفة. ولذلك فهذه القطاعات أقلّ تأثرًا نسبيًّا مقارنة بالصناعات المركزية كتصنيع الأغذية والقطاعات التصنيعية الأخرى المتركزة في ولاية الخرطوم كتصنيع اللحوم والأسماك، وتصنيع الأغذية البحرية، وتصنيع الفواكه والخضروات، بيدَ أن استمرار النزاع وصعوبات توفير لوازم الكهرباء المستقرة، ومعدات الإنتاج، وقطع الغيار للتصنيع في غيرها من الولايات الآمنة ستتأثر أيضًا على نحو هائل.
في العام 2022 ساهم القطاع الصناعي بنسبة 21 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، ما يجعله أصغر من قطاعي الزراعة والخدمات. ومساهمة القطاع-الفرعي للتصنيع ضمن القطاع الصناعي أصغر حتى مقارنة بالنفط والتنقيب عن الذهب. تهيمن على [قطاعَي] النفط والتنقيب واسع النطاق عن الذهب الشركات المملوكة للدولة، والشركات التابعة للجيش. ومع النزاع الجاري وتعبئة كل من الجيش والدعم السريع مواردهم الداخلية والخارجية لتمويل عملياتهم العسكرية فمن الراجح أن تنخفض الاستثمارات في قطاع التنقيب، ومن المحتمل أن يؤدي ذلك إلى نقص في الإنتاج. ومن المتوقع أن يكون إنتاج الشركات صغيرة-النطاق أقلّ مناعة حيال الوضع الأمني المعقد وحالة الطوارئ التي اشترعتها السلطات والتي ضمنها مُنِعَ نقل الوقود خارج حدود الولاية (وهو ما يحدث عادة في مناطق إنتاج الذهب). وحتى قبل الحرب كانت الشركات الصغيرة أقلّ مقدرة على حماية إنتاجها من النهب، وهو ما يعقّد الوضع مزيد تعقيد تحت ظروف الحرب.
من المتوقع أن ينخفض إنتاج المنتجات البترولية انخفاضًا مؤثرًا مع استمرار الحرب، فقوات الدعم السريع احتلّت مصفاة الجيلي التي تقع في الخرطوم منذ الشهر الأول من الحرب، وتعتبر مصفاة الجيلي من أضخم مصافي النفط في السودان، حيث أن سعتها 100,000 برميل نفط في اليوم.
انتعشت بعض القطاعات الخدمية الفرعية –خاصة المواصلات والفنادق والمطاعم- مع بداية الحرب بسبب النزوح الواسع وعمليات إخلاء القاطنين من مناطق النزاع. ولكن الخدمات العامة كالكهرباء والغاز والمياه والصرف الصحي والتعليم والصحة والعمل الاجتماعي تدهورت تدهورًا بالغًا.
تعرضت فروع البنوك في الخرطوم وولايات أخرى في منطقتي دارفور وكردفان للنهب مما ترك أثرًا بالغًا. ومن المحتمل أن يؤثر ذلك على الثقة في القطاع المصرفيّ ويزيد نسبة الأموال خارج القطاع المصرفي. إضافة إلى النهب فقد أفسدت الاشتباكات بعض فروع البنك المركزي للسودان في الخرطوم، ما أدى إلى اختلال مختلف الخدمات كالتصريحات الإلكترونية والتحاويل الإلكترونية خلال الشهرين الأوائل ما أثر على التجارة المحلية والخارجية. اعتمد بنك السودان المركزي إجراءات تخفيفية للتكيف مع الاختلالات لتسهيل تمويل المزارعين والصادرات والواردات، بالإضافة إلى تسهيل بيع وتصدير الذهب.
-ما بعد الورقة:
لم يكن الموسم الزراعي يسير على ما يُرام حتى قبل دخول الدعم السريع إلى ولاية الجزيرة، فقد أصدرت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة في نوفمبر الماضي تقريرًا عن تقييم الأداء الزراعي في الموسم الصيفي، ذكرت فيه انخفاض إجمالي المشروع بما نسبته 15% مقارنة بمتوسط الأعوام الماضية، وانخفاض إنتاجية الذرة الرفيعة بنسبة 24% عما كانت عليه عام 2022، وانخفاض إنتاجية الدخن بنسبة 50% لذات الفترة، إضافة لتحديات عديدة من ارتفاع تكاليف المدخلات الزراعية وعدم توفيرها، وعجز التمويل، وغياب الخدمات الزراعية الإضافية، وانتشار الآفات والأمراض النباتية نتيجة عدم توفر الأسمدة والمبيدات الحشرية ومبيدات الأعشاب.
استولت مليشيا الدعم السريع على ولاية الجزيرة في 18 من ديسمبر 2023، وابتدرت مباشرة سرقة 2500 طنًّا من المواد الغذائية التابعة لمخازن المساعدات التابعة لبرنامج الغذاء العالمي التي كانت مخصصة لمساعدة أكثر من مليون ونصف نازح ومتضرر من الحرب، كما ابتدأت حملات نهب لقرى الجزيرة من اختطاف وطلب فديات وتهجير للمواطنين، وسرقة السيارات والدراجات النارية، وسرقة للمعدات الزراعية والمحاصيل مما كان له أكبر الأثر في فشل الموسم الشتوي والصيفي، كما أنّ مدينة ود مدني استقبلت ملايين النازحين من ولاية الخرطوم ومثلّت السوق المركزيّ في حركة البضائع التجارية بين الولايات الغربية وولايات وسط السودان، بالإضافة إلى البضائع التي تتجه إلى غرب السودان.
ذكر مزارعون أنّ حصاد محصولي القطن والقمح فشل بشكل شبه كامل أو تم الاستيلاء عليه من قبل قوات الدعم السريع، وتوقعوا فشل الموسم الصيفي باستثناء مناطق المناقل والقرشي غربي الولاية والتي لا تزال تحت سيطرة الجيش، وذكر مزارع أنّ فشل حصاد القطن راجع لإغلاق المحالج والتي تتمركز في مدني والحصاحيصا والباقير وكلها مناطق تحت سيطرة الدعم السريع، إذ أنّ المحصول سيتعرض للتلف في الأرض نتيجة ذلك، كما أعاق الحصادَ سيطرةُ وانتهاكات الدعم السريع ونزوح أعداد كبيرة من المزارعين، فعناصر المليشيا تتربص بالمزارعين في أراضيهم وتنزع بعض المحاصيل منهم، وفي بعض المناطق أحضرت المليشيا حاصدات القمح وأكملت عمليات الحصاد في مساحات تبلغ 60 ألف فدان وصادرت المحصول لصالحها، مما أدى إلى عزوف عن الحصاد وفقدان المزارعين دخلهم.
وفي دراسة أعدها مركز أبحاث سياسات الغذاء الأمريكي في مايو أنّ ثلث المزارعين نزحوا وأكدت عدم قدرتهم على الوصول للمدخلات الزراعية فضلًا عن اضطرابات السوق بسبب النزاع، وأنّ 40% من المزارعين على المستوى القومي غير قادرين للاستعداد للموسم الزراعي، يبدأ التحضير للموسم الصيفي عادة في شهري "مايو-يونيو" لكن وفقًا لإفادات المزارعين فالموسم سلفًا في عداد الموتى، وقد قدّر محافظ مشروع الجزيرة خسارة المشروع بشكل مبدئي بقيمة 50 مليار جنيه، مؤكدًا على سيطرة قوات الدعم السريع على 80% من مساحة المشروع.
وفي قطاع النفط، قال وزير النفط السوداني (2 مارس 2024) أنّ البلاد فقدت حوالي 210 ألف برميل من الخام نتيجة تخريب مستودع الخام بمصفاة الخرطوم وتدمير منشآت أخرى منها مستودعَي البنزين والغاز التي كانت مليئة بالمنتجات البترولية، وقدّر حجم الدمار الذي لحق بقطاع الطاقة والنفط بـ5 مليار دولار، موضحًا أن الأضرار شملت المنشآت النفطية ومحطات الكهرباء وفقدان الخام النفطي والمنتجات البترولية المحفوظة في المستودعات الاستراتيجية، وكشف عن تدني الإنتاج النفطي طوال هذه الفترة مما أدى إلى فقدان حوالي 7 مليون برميل من خام النفط حُرِمت البلاد من إنتاجها، وبيّن أن استراتيجية الحكومة لتوفير المشتقات البترولية والوقود اعتمدت على الاستيراد ضمن خطط استيراد كل 3 أشهر بواقع 3-4 بواخر شهريًّا.
سيطرت مليشيا الدعم السريع في أكتوبر الماضي على مطار بليلة والمنشآت النفطية في الحقل المجاور الذي كان ينتج نحو 22 ألف برميل يوميًّا قبل اندلاع الحرب.
كما اقتحمت مليشيا الدعم السريع في أكتوبر الماضي مدينة العيلفون جنوب شرقي الخرطوم وسيطرت على المحطة النفطية التي يمر من خلالها النفط القادم من دولة جنوب السودان.
الأثر على الواردات:
خلال الشهرين الأولين من الحرب شهدت الواردات انخفاضًا ملاحَظًا، خاصة الواردات عبر بورتسودان. توقفت العديد من شركات الشحن (كمجموعة مولر-ميرسك) عن استلام حجوزات شحن جديدة للسلع المصدرة إلى السودان. وبسبب إغلاق العديد من المصانع في الخرطوم خاصة مصانع التصنيع الزراعية انتقلت البلاد إلى الواردات من البلدان الجارة كمصر وإثيوبيا.
الخرطوم بتعدادها الذي يُقدَّر بـ 10 ملايين نسمة لم تكن أكبر سوق للواردات فحسب، بل كانت تعمل فيها 43 بالمئة من فروع البنوك في البلاد والتي تقوم بدور أساسي في تمويل الواردات والصادرات. في اليوم 14 من يونيو عام 2023 أعلن بنك السودان المركزي التحكم والتنظيم عبر نظام ورقيّ للواردات لتجنب ندرة السلع الغذائية.
واستجابة للتحديات التي فرضتها الحرب أعلنت الحكومة بعض السياسات المشجعة للقطاع الصناعي تتضمن إلغاء جميع الرسوم الولائية عن القطاع، والتي شُرِّعَت قبل الحرب. ومع ذلك ليس من المتوقَّع أن يساهم ذلك مساهمة مؤثرة في تشجيع دخول استثمارات جديدة قادرة على تغطية الفجوة الإنتاجية المتصلة بفقدان المصانع في ولاية الخرطوم.
من المتوقع أن تزيد واردات المنتجات الغذائية والمشروبات كالدقيق والمشروبات والأغذية الأخرى. علاوة على ذلك من المتوقع أن يزداد استيراد السلع المهمة استراتيجيًّا (كالمنتجات البترولية) والتي انخفض إنتاجها المحليّ. وعلى الصعيد الآخر من المتوقع أن تنخفض واردات السلع والخدمات الرفاهية الأخرى انخفاضًا هائلًا نظرًا لنقص جهة الطلب بسبب التباطؤ الاقتصادي الذي سببته الحرب.
الآثار على الصادرات:
مباشرة بعد اندلاع النزاع توقف التصدير عبر بورتسودان. وعلى الرغم من أنّ بعض السلع قد صُدِّرت عبر حدود البلاد (خاصة لمصر)، فإنّ الصادرات إلى سواها من الشركاء التجاريين الحدوديين في جنوب وشرق وغرب البلاد تأثرت بسبب صعوبة نقل السلع مِن أو خلال مناطق النزاع. تأثرت البلدان الجارة –كتشاد وجنوب السودان- تأثرًا معتبرًا بانخفاض الصادرات السودانية.
بتاريخ 22 من مايو استبدل بنك السودان المركزي نظام الترخيص الإلكتروني بنظام ورقي للسماح باستئناف التصدير عبر بورتسودان. وفي يونيو لغى البنك متطلَّب أن تحدث تنقية الذهب في السودان سامحًا للبنوك بتصدير خام الذهب لأصحاب العطاء وشركات التنقيب الصغيرة. وهذه الإجراءات سهلت بعض التصدير وخاصة تصدير الذهب.
إحدى التحديات التي يواجهها التصدير هي ترحيل السلع من مناطق الإنتاج إلى مناطق التصدير البرية أو البحرية بسبب النزاع. بتاريخ 13 من أغسطس عام 2023 أغلقت الحكومة طريق الخرطوم-بارا أيضًا، وهو أحد الطرق الرئيسية التي تربط المناطق الغربية بالخرطوم وبورتسودان.
-ما بعد الورقة:
بشأن أهم الصادرات التي تعتمد عليها الدولة ذكر بعض المسؤولين أنّ الذهب تراجع إنتاجه من 18 طنًّا إلى طنين، مما أفقد عائدات صادرات التي تعادل 50% من الصادرات بقيمة ملياري دولار.
وكشف وزير المالية عن انخفاض إيرادات الدولة بنسبة تزيد عن 80%، وقال بعض الخبراء الاقتصاديين أنّ الصادرات السودانية تراجعت بنحو 60% مع إغلاق مطار الخرطوم، ولفت إلى أنّ توقف العمال بمعظم الموانئ الجافة ونقاط التجارة الحدودية مع اضطرابات سلاسل التوريد الناتجة عن الحرب، مما أدى إلى تراجع عائدات الصادرات من العملات الصعبة.
الأثر على التحاويل المالية للمنازل:
إنّ التحاويل المالية للمنازل تزايدت تزايدًا معتبرًا خلال النزاع، فلأن 55 بالمئة من السكان يعيشون في مناطق تأثرت بالنزاع، وفقدت نسبة معتبرة منهم وظائفهم وأصبحوا معتمدين على مدّخراتهم والتحاويل المالية كمصادر أساسية للدخل، فمن المتوقع أن تتزايد التحاويل المالية مع استمرار النزاع.
الآثار على الناتج المحلي الإجمالي والتوظيف بالقطاعات:
يشير النموذج إلى أنّ السودان قد خسر 5 مليار دولار بنهاية يونيو، ومن المتوقع أن تبلغ هذه الخسارة 10 مليار دولار إذا انتهت الحرب في سبتمبر، و 15 مليار إذا استمرت حتى نهاية 2023، وسيمثل ذلك انخفاضًا بنسبة 48 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي. على مستوى القطاعات ستعادل الخسارات 21 بالمئة في الزراعة، و 70 بالمئة في الصناعة، و 49 بالمئة في الخدمات. وتشير النتائج إلى أنّ القطاع الصناعي هو الأكبر تأثرًا بالحرب تحت كل السيناريوهات، وذلك بسبب تركز المنشآت الصناعية السودانية في المناطق الحضرية من ولاية الخرطوم، وهي أكثر المناطق تأثرًا بالنزاعات والاشتباكات.
ومن المتوقع أن ينكمش الاقتصاد بنسبة 48 بالمئة مقارنة بمستواه عام 2021، وهو ما يعادل 15 مليار دولار في الناتج المحلي الإجمالي الكلي. وستتقلص الزراعة الأولية والتي تساهم بنسبة 21 بالمئة من الناتج القومي الإجمالي، ستتقلص بنسبة 21,4 بالمئة إذا استمرت الحرب حتى نهاية السنة وهو ما يعادل 1,3 مليار دولار. فالزراعة تساهم في 9 بالمئة من التقلص الكلي للاقتصاد.
وضمن القطاع الزراعي تأثرت المحاصيل والمواشي بدرجة متشابهة كما أنهما صنعا أثرًا متشابهًا على الناتج المحلي الإجمالي الكلي. بيد أنّ قطاع الغابات والذي يتضمن الصمغ العربي بوصفه صادرًا مهمًّا من صادرات قطاع الغابات سينخفض بنسبة 37 بالمئة، ولذلك آثار على منطقتي كردفان ودارفور حيث يُنتَج الصمغ العربي، كما له آثار عالمية محتملة نظرًا لمساهمة السودان في الإمداد العالمي به.
وداخل الصناعة يتضح وجود أثر على قطاع التنقيب (خصيصًا الذهب)، فإنه سجل فقدانًا قيمته 2 مليار دولار يساهم بنسبة 15 بالمئة من الأثر الكلي [للحرب] على الناتج المحلي الإجمالي. تأثرت قطاعات فرعية أخرى داخل القطاع الصناعي تأثيرًا هائلًا كصناعة منتجات النسيج والملابس والجلد والخشب والورق، والمرافق ما يتضمن مرافق الكهرباء والمياه والبناء.
على الرغم من التحديات التي تواجه قطاعي الفنادق وخدمات الطعام داخل ولاية الخرطوم، فإنهما القطاعان الفرعيان الوحيدان في الاقتصاد اللذان سجلا تغيرًا إيجابيًّا بسبب النزاع. فالفنادق وخدمات الإسكان في الولايات سوى الخرطوم، وخاصة في ولاية البحر الأحمر (العاصمة بحكم الأمر الواقع للسودان) والولاية الشمالية وولاية نهر النيل شهدت تزايدًا في الطلب وزيادة حادة في الأسعار، وهذا يفسر الزيادة بنسبة 33 بالمئة التي أنتجت زيادة قيمتها 0,3 مليار دولار وخفضت الخسارة الكلية للاقتصاد بنسبة 2.2 بالمئة.
من المتوقع أن يفقد مجمل القطاع الخدمي وهو القطاع ذو النسبة الأكبر من التوظيف في الاقتصاد حوالي 2.7 مليون وظيفة مع انخفاض للتوظيف داخل القطاع بنسبة 47,9 بالمئة مقارنة بمستوى التوظيف فيه عام 2021. أما القطاع الزراعي سيخسر حتى 0,4 مليون وظيفة ما سيشكل نقصًا بنسبة 20,4 بالمئة والقطاع الصناعي سيخسر حوالي 2 مليون وظيفة، وهو ما يعادل 81,3 بالمئة.
أكدت دراسة مسحية حديثة تستكشف أثر النزاع على شركات التصنيع-الزراعية في السودان أن الأثر التوظيفي [للحرب] على العاملين في قطاع التصنيع الغذائية حتى الآن أثر هائل. وتشير هذه النتائج إلى أنّ 7 بالمئة فحسب من العاملين في قطاع التصنيع الزراعي في السودان يعملون بصورة طبيعية بعد النزاع. وهذه النتائج تدل أيضًا على أنّ 20 بالمئة من العاملين في القطاع أُقِيلوا بسبب النزاع، بينما مُنِح 47 بالمئة منهم إجازة غير مدفوعة و 7 بالمئة في إجازة مدفوعة.
-ما بعد الورقة:
قدرت دراسات وعضدها خبراء اقتصاديون أنّ السودان تكبّد خسائر بأكثر من 100 مليار دولار، كانت خسائر البنى التحتية والمعلوماتية منها نحو 36 مليار دولار، والقطاع الزراعي بشقيه الحيواني والنباتي خسائر آنية ومستقبلية تبلغ أكثر من 20 مليار دولار، والقطاع الصناعي حوالي 15 مليار دولار، بينما كان القطاع المصرفي أكبر متضرر بعد إفقاره بنهب البنوك في ولايات الخرطوم والجزيرة ودارفور بشكل شبه كامل، كما تم نهب الذهب والعملة الصعبة الخاصة بالمواطنين المودعة لدى البنوك، تقدّر بعض التقديرات أن خسارة القطاع تبلغ 20 مليار دولار، بينما تقدَّر خسائر القطاع الصحي بنحو 13 مليار دولار.
وتوقع مكتب الأمم المتحدة لتنسيق المساعدات الإنسانية (أوتشا) انكماش الاقتصاد بنسبة 12% لأن الصراع أوقف الإنتاج ودمر رأس المال البشري ومقدرات الدول.
الآثار على المنظومة الزراعية-الغذائية:
إنّ المنظومة الزراعية-الغذائية هي شبكة الفاعلين الذين تصل بينهم أدوارهم المختلفة في إمداد واستعمال المنتجات الزراعية-الغذائية وفي حوكمة هذه النشاطات. إنّ انكماش المنظومة الزراعية-الغذائية سيؤدي إلى انخفاض التوظيف بما يعادل 0,6 مليون عامل (ما نسبته 23 بالمئة أدنى من مستوى التوظيف فيه عام 2021) إذا استمرت الحرب حتى نهاية العام. والانخفاض الناتج في التوظيف خارج المنظومة الزراعية-الغذائية سيبلغ 4,6 مليون عامل (أقل بنسبة 59 بالمئة عن مستوى التوظيف في العام 2021). الزراعة هي مصدر التوظيف الأكبر في المنظومة الزراعية-الغذائية، وستخسر 20,4 بالمئة من العمال (ما يعادل 0,4 مليون عامل أقل مما كان عليه التوظيف عام 2021)، وسيتبع ذلك خسارة كل من قطاعات التصنيع والتجارة والمواصلات بما يعادل 0,1 مليون عامل مقارنة بمستوى التوظيف في العام 2021.
-ما بعد الورقة:
مع دخول مليشيا الدعم السريع ولاية الجزيرة التي يقع فيها أكبر المشاريع الزراعية المروية في السودان، واستشراء مهاجمتها القرى وانتهاكها ونهبها، وتهجير جزء كبير من المواطنين، ومنع المزارعين من حصاد محاصيلهم بل حتى بلوغ مزارعهم، وقطع نشاط أسواق الولاية، ومع الوضع بعين الاعتبار حقيقة أنّ الزراعة هي مصدر التوظيف الأكبر من المنظومة الزراعية-الغذائية؛ يمكن توقع خسارة القطاع الزراعي لعدد هائل من الموظفين، وتأثيرات ضخمة على الوضع الزراعي-الغذائي في البلاد.
ذكر تقرير منظمة الغذاء العالمي الصادر في أبريل 2024 أنّ أسعار كل من الفتريتة ودقيق القمح والغنم والفول السوداني شهدت ارتفاعًا معتبرًا خلال هذه الفترة، كما زاد سعر سلة الغذاء المحلية حيث بلغت 1,016 جنيهًا وهو ما يقدَّر بزيادة تعادل 127% مقارنة بنفس الشهر من العام الماضي، ما قد يهدد بندرة شديدة في الغذاء والسلع الأساسية. وذكر التقرير أنّ هذه الزيادة راجعة إلى انخفاض الإنتاج واختلال سلاسل الإمداد في غالب البلد، وذلك لا محالة راجع إلى حرب مليشيا الدعم السريع على المواطنين ومحاصيلهم وثرواتهم وأسواقهم.
الآثار على دخل الأسر والفقر:
على المستوى القومي ستفقد الأسر حوالي نصف دخلها (مقارنة بمستويات العام 2021) بسبب النزاع إذا استمر حتى آخر العام 2023. وليس مفاجئًا أنّ الخسارات في المناطق المتمدنة كانت أكبر من الخسارات من المناطق الريفية بسبب حقيقة أنّ ولاية الخرطوم كانت مركز النزاع، وليس مفاجئًا أيضًا أنّ الأسر ذات الدخل الأكبر تأثرت أكثر من الأسر ذات الدخل الأقلّ بسبب الخسارات في الإسكان والوظائف الصناعية في المدن خصوصًا العاصمة.
عناصر الإنتاج مصدر أساسيّ للدخل لمجموعات الأسر وقد تأثرت بالنزاع تأثرًا بالغًا. فدخل جميع مصادر الإنتاج سينخفض بنسبة 48,3 بالمئة على الأقل مقارنة بمستوياتها في العام 2021. وداخل مجموعة عناصر الإنتاج سينخفض دخل العمالة بنسبة 50,8 بالمئة، بينما سينخفض دخل رأس المالية بنسبة 46,5 مقارنة بمستوياته في العام 2021. إنّ الانخفاض في دخل الموظفين سيكون الأعلى ما بين العمال ذوي التعليم الأساسي، بينما أشدّ أنماط رأس المال معاناة ستكون المستغلّ في قطاع التنقيب، التي ستنخفض بنسبة 93,4 بالمئة.
إنّ أثر هذه الانخفاضات في دخل عناصر الإنتاج ستنتقل إلى مختلف مجموعات الأسر استنادًا على ملكية هذه العناصر، فمثلًا الأسر التي يعولها عمال ذوي تعليم أساسيّ ستواجه انخفاضًا في دخلها من الإنتاج أعلى من الأسر التي يعولها بالأساس أفراد من الفئات الأخرى من العمال.
إنّ انخفاض دخل الأسر مجتمعًا مع زيادة أسعار السلع والخدمات، والأضرار التي لحقت بأصول الأسر وبنيتها التحتية ستؤدي إلى تغيرات في الفقر اعتمادًا على قدرة الأسرة على تعبئة الموارد مرونتها في إبدال سلعها الاستهلاكية. إذا استمرت الحرب حتى نهاية العام 2023 تتنبأ الدراسة بأنّ معدل الفقر على المستوى القومي ستزيد بنسبة 4,5 بالمئة مقارنة بمستوياتها في العام 2021 مما يؤدي إلى زيادة عدد الفقراء 1,8 مليون شخصًا. من المتوقع أن يشهد ريف السودان زيادة أعلى في الفقر (بنسبة 5,9 بالمئة) مقارنة بحواضر السودان (بنسبة 3,8 بالمئة)، فسيُدفَع مليون شخص في المناطق المتحضرة إلى الفقر فيما سيُدفَع 0,8 مليون شخص في المناطق الريفية بسبب النزاع.
-ما بعد الورقة:
قال مسؤول في وزارة المالية السودانية للجزيرة نت أنّ نسبة إيرادات الدولة انخفضت بنسبة 85% مع مضي سنة كاملة من القتال، ويتوقع ارتفاع مؤشر الفقر في البلاد إلى أكثر من 90% بعد فقدان الموظفين والعمال وظائفهم، ومن ثم عدم حصولهم على رواتبهم، وأنّ الدولة تدفع 60% من الرواتب لعدد من القطاعات، وأن بعضها –كقطاعَي التعليم والصحة- توقف الدفع له منذ أشهر.
بقلم الكاتب / د الحارث عبدالله
كاتب وباحث سوداني