الجيش وحرب أبريل ..محاولة لفهم الاستراتيجية العسكرية للجيش

 

بمرور ما يزيد على العام والشهرين للحرب بالسودان تتجه الأوضاع إلى تحولات ميدانية تبدو ملحوظة لصالح الجيش السوداني عكس الظاهر على السطح من استمرار الأعمال العدائية لقوات الدعم السريع التي وإن كان صحيحًا أنها نجحت وفي الساعات الأولى للحرب _ 15 ابريل 2023_ في تثبيت وضع مربك بالسيطرة على القصر الرئاسي ومباني الإذاعة والتلفزيون وحاصرت أجزاء من القيادة العامة للجيش وعزلت عمليا المناطق العسكرية بالعاصمة الخرطوم وهاجمت بالتزامن القواعد الجوية للجيش في الأبيض ومروي إلا أنها فشلت في منطقة وادي سيدنا؛ وتبعا لذلك فشلت المحصلة الأولية لمبادرة هجوم الدعم السريع المتزامن والسريع على كافة مواقع القوات المسلحة السودانية بما في ذلك مقر إقامة القائد العام ورئيس المجلس السيادي ببيت الضيافة وبالتالي فشل التحرك العدائي في فرض واقع تغيير على النسق المعتاد في مثل هذه الأحداث بالسوابق المحلية أو الخارجية, وبانتصاف ظهيرة أول أيام الحرب ومرور نحو ست ساعات وهي المعدل المعتاد للكشف عن تفاصيل أيما عملية انقلاب أو عصيان أو تمرد أو حتى سوء تفاهم أدى لاندلاع قتال فشل الطرف المبادر بعمليات الهجوم الواسع والمتزامن في تحديد ثمرة العملية أو قطفها وهو ما مكن الجيش عبر سلاح الجو في إحداث ضربات مؤثرة استهدفت معسكرات الدعم السريع وتجمعاته وبرج قيادته بوسط الخرطوم مع احتفاظ الجيش في الوقت نفسه بميزة نجاح إجلاء القائد العام للجيش من بيت الضيافة إلى مقر داخلي بالقيادة العامة رغم التفوق العددي للدعم السريع والتدفق بقوة المساندة الداعمة للقوة الأساسية بتدفقات من مناطق شرق الخرطوم وغربها وانفتاح قوات للمتمردين بطول شارع النيل وكل المناطق المحيطة بقيادة الجيش من الغرب والشرق والجنوب

الإنفجار من الداخل:

بدا واضحا من الساعات والأيام الأولى للحرب أن الجيش بنى خطته الأساسية على امتصاص الصدمة الأولى والثبات الانضباطي في عدم الاندفاع المتهور بين المناطق لإسناد الوحدات رغم كلفة ذلك اللاحقة على شكل العمليات العسكرية الخاصة بتطهير الأحياء والمناطق السكنية وما تبع ذلك من انتقادات في الرأي العام وذلك أن التصرف وراء ذاك الاندفاع ربما كانت مخاطره قد تشمل فقدان الجيش لقواته ومعداته بعمليات التفاف أو اكتساح بالموجات البشرية للمتحركات التي قد تحاول قطع المسافات من جنوب الشجرة حيث سلاح المدرعات للقيادة أو من بحري شمالا أو اندفاع قوات من منطقة كرري العسكرية ووادي سيدنا جنوبا إلى منطقة أمدرمان شمالا بسبب التموضع الاستباقي لقوات الدعم السريع في شكل قواعد ومناطق حشد وظفت انتشار خارطة مراكز هيئة العمليات قبل حلها وأيلولة مقارها للدعم السريع ناهيك عن معسكراتها الطرفية التي كانت مع الانتشار الأرضي بمدن العاصمة الثلاث كان يفترض أن تعرض الجيش لكماشة ومنطقة قتل في وقت كانت نسبة المقابلة على مستوى العناصر خمسة إلى واحد لصالح الدعم السريع وقد ساعد في ذلك أن حالة الأحداث بالسودان وسوابق الحروب المماثلة بمعنى مواجهة الجيش النظامي وجماعة متمردة كانت نقطة التفجر الحمراء فيه من قلب عاصمة البلاد والموقع المركزي لقيادة الجيش وهو ما لم يحدث مثلا في الحالة الرواندية واجتياح الجبهة الوطنية الرواندية للعاصمة كيجالي ( يوليو 1994) من الخارج أو اقتحام الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي للعاصمة أديس أبابا (مايو ١٩٩١) حيث كانت تمتلك تلك الجيوش الأفريقية أفضلية الترتيب والتنظيم الدفاعي أو الصد الهجومي في نطاقات أبعد من إحداث مهددات خطرة على العواصم السياسية لتلك الدول ورئاسات الجيوش هذا مع فارق أن تلك الدول بالأساس كانت تواجه جماعات متمردة لسنوات ولم تصحو عند الفجر لتجد أن نائب الرئيس يطالب على بعد أمتار من منزل الرئيس برأس رئيسه حيا او ميتا !

حقائق ميدانية :

العاصمة الخرطوم وبمدنها الثلاث وباعتبارها مركز الرمزية السياسية ورابطة الرمزية العسكرية ولكونها الدالة على الحق السيادي ضمن ثوابت مشروعية التمثيل والاعتراف ورغم سيطرة الدعم السريع على القصر الرئاسي والإذاعة والتلفزيون لكنه فشل بالكامل وبعد مرور عام وأكثر من السيطرة على مقار الجيش السوداني ومناطقه العسكرية الرئيسية والتاريخية ذات الرمزية فالقيادة العامة لا تزال مقر إدارة رئيس أركان الجيش وكبار مساعديه للمعارك والحرب فيما لا تزال كذلك منطقة الشجرة العسكرية وسلاح المدرعات تحت سيطرة الجيش وفشلت هجمات يومية استمرت لقرابة عشرة أشهر في أن يسقط بيد الدعم السريع وكذا الحال لمنطقة أمدرمان العسكرية وسلاح المهندسين ولتضاف إلى هذا منطقة كرري ووادي سيدنا ليمكن القول أن الجيش احتفظ وبشكل كامل برايته مرفوعة رغم شدة حصار بعض المواقع لما يقارب العام واستمرار وضع الحصار في أخرى واستحالة الحصول على إمداد بشكل طبيعي ومنتظم وهي الحالة التي كشفت عن طبيعة مراس صلب وصلد للجندي السوداني وعناصر الجيش والملتحقين ببعض تلك الوحدات من المتطوعين والمستتفرين إذ ابتداء تمت إدارة المعارك في تلك الظروف بقدر مدهش من التعامل والظروف المحيطة فلم تحدث انهيارات أو عمليات استسلام بل وبمرور الوقت ومع نهاية العام الأول للحرب تحولت أسوار تلك المناطق العسكرية للجيش لمنطقة لاستنزاف القوات المهاجمة وبشكل مؤثر رغم أن فرص الاستعواض والإمداد لصالح القوة المهاجمة والتي صبت تلك الميزات لصالح القوة المدافعة ! حيث أبطلت مؤثراتها على الفوارق العملية أثناء القتال وأبطلت فعالية توظيف الاستعواض وتفوق الإمداد البشري للمهاجمين مقابل نقص القوة المرتكزة في دفاعات المناطق او خارجها .

أثبتت تلك الاستراتجية الدفاعية تأثيرها على مجمل الوضع العسكري مع مرور الأيام؛ إذ أنها شغلت الدعم السريع في انتظار نصر باقتحام أسوار سلاح المدرعات بالشجرة _ جنوب الخرطوم_ أو سلاح المهندسين جنوب أمدرمان أو الإشارة جنوب بحري أو الخلوص لقائد الجيش أو نائبه أو طاقم هيئة الأركان وهو مالم يحدث بل على العكس نجح الجيش في إخراج قائده ونائبه من قلب القيادة العامة بالخرطوم إلى أمدرمان ووصول مساعد القائد العام من المهندسين إلى منطقة كرري وبلوغ مساعد قائد الجيش الآخر بورت سودان قادما من الخرطوم لتسقط عمليا كامل تأسيسات فرص إحداث تغيير قسري بتغييب القيادة العسكرية للجيش والرمزية السيادية للدولة والتي إلى جانب تمسك الجيش نفسه برئاسات مناطقه العسكرية قررت ان المشروعية السياسية والعسكرية تكاملت بيد القوات المسلحة فسقط عمليا مشروع إعلان سقوط الدولة وانتهى

حاميات الولايات :

بالنسبة للموقف العسكري بالولايات فالوضع في ولايات دارفور وكردفان وقياسا على ظروف بيئة الحرب كان منطقي فيها الاتجاه الذي سارت عليه الأوضاع فقبل الحرب بالأساس وضح أن الدعم السريع كان قد تقوى وتفوق بالتجهيزات مع سوء تقدير من السلطات المركزية التي ربما لم تجري ترتيبات بشأن مخاطر محتملة بشأن تشوين الفرق وتجهيزاتها مع الإسناد المحلي الأهلي _ بالترغيب أو الترهيب_ للحواضن المجتمعية إلى جانب الاضطراب المبكر لحسم المواقف لدى الحركات الدارفورية المسلحة التي كان يمكن لتدخلها المبكر أن يغير موازين القوى أو يحسن موقف صمود الفرق العسكرية في جنوب دارفور ووسطها وشرقها كما حدث في وقت متأخر مع الموقف في شمال دارفور والفاشر حيث أن تداخلها بالقتال إلى جانب الجيش خلق معادلة جديدة في ميزان العمليات وتحديدا بامتلاك تلك الحركات مناطق حشد على حدود السودان الغربية مكنتها من وضع الدعم السريع تحت ضغط القتال على اكثر من جبهة في شمال دارفور مما أضعف تكتيك الخنق المميت والاكتساح الضاري بعد انهاك الحاميات كما حدث في زالنحي ونيالا ومع أن النجاحات التي حققها الدعم السريع بالولايات -خاصة دارفور- لكنه فشل بالكامل في انجاز تحولات أخرى بغرب كردفان وجنوبها وتقريبا شمالها حيث انه افتقد في تلك الولايات ميزة الاسناد المفتوح مجتمعيا وحتى في حالة ولاية الجزيرة فعسكريا لم تشكل له إضافة إذ بدت وكأنها تحولت إلى وحل علقت فيه القوة الغازية إذ اخفقت في التقدم نحو ولاية القضارف أو الانتصار في سنار أو إحداث تحول كبير بالنيل الأبيض وهي بالإجمال اخفاقات لم تستثمر الخطأ المميت بتفريط الجيش في ولاية الجزيرة وهو تفريط يمكن اعتباره النقطة السوداء في أداء السنة الأولى للحرب ويحاط إلى حد كبير بسياج من التكتم على الصعيد الرسمي رغم إلتزامات سابقة بالتحقيق فيما جرى.

حصاد الامتصاص :

مع نهايات العام الأول للحرب وبالنظرة الكلية لمحصلة تدابير التكتيك والاستراتجيات والمتاح والممكن يمكن القول بثقة مطلقة أن القوات المسلحة السودانية نجحت وبشكل كبير في تفتيت صخرة الدعم السريع من واقع إهلاك القوة العظمى المنظمة للدعم السريع سواء على مستوى القوة البشرية أو المعدات والأهم قدرة الدعم نفسه على تحقيق انتصار كامل أو شبه كامل وبات في حكم المؤكد بشكل كامل أن المشروع اللاحق لتلك القوات من الحرب قد ضاع في متاهات خلل جلي وظاهر في غياب القيادة العسكرية إذ لا يعرف الآن على وجه الدقة والتعيين شكل قيادي معلوم وواضح لتلك القوة عدا عن شاخص لافتة قديمة تتحدث عن محمد حمدان دقلو كقائد وعبد الرحيم دقلو كنائب وعثمان عمليات كقائد للعمليات مع بروز مجموعة من الاسماء التي تضع لنفسها ما تشاء مناصب وتعريفات ويضاف إلى هذا النقص المتزايد في القوة والخسائر الهائلة حتى على مستوى قادة قطاعات بالدعم السريع وهلاك كبير لأعداد كبيرة على مستويات الضباط والجنود وانخفاض موجات الفزع والإسناد سواء أثناء المعارك والعمليات أو من واقع الإمداد البشري المتسلل من خارج السودان بشكل لم يبقى فيه سوى ظاهر مشاركة مرتزقة جنوبيون _من النوير ! حال انحسار تدفقهم فمن المؤكد ان الدعم السريع سيواجه بانكشاف مميت خاصة في محاور القتال بولاية الخرطوم التي يخوض فيها الحرب بنهج تراجعي ظاهر وبين بدلالة ما انجزه الجيش بأمدرمان وجنوب منطقة الشجرة وربما بحري في مقبل الأيام

منظار جديد:

لا يمكن القول أن تجربة القوات المسلحة السودانية بعد عام من الحرب مثالية أو خالية من جوانب تتطلب التقييم العادل غير المجامل لكن وقياسا على ملابسات ظروف اندلاع القتال وبيئة الخمسة سنوات الماضية بعد تغيير العام 2019 الذي أطاح بالبشير ونظام الإنقاذ بل حتى السنوات السابقة لذالك الحدث فإن تلك البيئة أثرت على الجيش في جوانب مختلفة كلفته فواتير ستدفع في هذه الحرب وبعدها لكن ومع هذا وبالنظر لحجم وأبعاد حرب الخامس عشر من أبريل وامتداداتها الخارجية وتورط أطراف داخلية وخارجية وقوى إقليمية وعالمية وتقاطعات دوائر عظمى وصغرى وبناء على واقع ساعة الصفر يمكن القول ونظرا للواقع الذي يتشكل الآن تجاه الحرب من حيث التماسك الوطني والتقدم العسكري واليقظة العامة للشعور الوطني يمكن القول أن إدارة الجيش لهذه المعركة (مع استصحاب الملاحظات الراشدة) يبدو وكأنه أداء جدير بالتقدير واحتساب نقاط التقييم بالنظر إلى الصورة الكلية التي جعلت الجيش في مواجهة حرب مفتوحة بها خطوط إمداد من الخارج وسوق سلاح مبذول بتمويلات بقدرات دول تدعم جهة في كل أعراف القوانين الدولية تناهض الجيش النظامي وتحت ضغط آلة إعلامية عالية التأثير فضلا عن عدو نقل ساحة المعركة من معتاد القتال بين الحيوش لتكون في الحارات والأحياء والقرى وبيوت المواطنين والأعيان المدنية والخدمات بل بلغت دور العبادة حيث شمل ذلك المساجد والكنائس معا مع ضعف الجهاز التنفيذي المدني وغياب الحكومة ووضع بلد بالأساس تم حقنه قبل الحرب بمصل يشل الأطراف ! وهو ما جعل معركة الجيش عسكرية في أول ضوء وتنفيذية في منتصف النهار وسياسية بالمساء

ضباب الحرب:

قلت أن أداء القوات المسلحة السودانية وقياسا على ملابسات وظروف البيئة التي اندلعت فيها النيران فجر ١٥ أبريل ٢٠٢٣ جدير بالاحترام, وتقدير بشكل كاف حرى بحفظ لكثير من رجالها جدارة الاعتبار, وكما يقولالاستراتيجي العسكري كارل فون كلاوزفيتز  في قاعدته المسماة ضباب الحرب: "إن للحروب مفاجآت لايمكن أن تراها قبل حصولها، لذا تأتي المرونة في تغيير الخطط لمعالجة التغيرات الطارئة وللتقليل من فداحة أخطائها بما في ذلك المستوى السياسي والاستراتيجي العسكري" وهو ما يبدو أنه كان حاضر وبشكل كبير في تقديرات المؤسسة العسكرية السودانية التي تجاوزت دون إرباك كبير للنظام داخل المؤسسة مترتبات حالة الشرود الذهني وربما التقديرات غير المناسبة لنوايا الطرف المندفع للحرب بتحهيزات لم تكن في عموم ما حدث محل تمويه وإخفاء وبالتالي يمكن القول أنه ومع نهايات العام الأول للحرب بدا وكأن ضباب الحرب قد انقشع أو دخانها المظلم فبدأت تحولات كبيرة من الخطاب المعنوي والحربي لقادة الجيش إلى اللغة السياسية وليس انتهاء بالتحرر من مقيدات الفعل السياسي أو مبذولات الخيارات الدبلوماسية لإدارة الحرب وبالضرورة سبق هذا عمل كبير في جوانب التعامل بشكل جدي مع مطلوبات العمل الحربي بكامل تفاصيله وتحهيزاته.

هذا التحول والتكيف المرن يمكن شرحه بمثال تطورات العمل العسكري ونموذجية ميدان منطقة أمدرمان كمثال؛ وهنا وقعت مخالفة لنظرية أخرى للمفكر عكس القاعدة الاولى. فقد خالف الحيش السوداني كارل فون في نظرية العنف بحرب المدن حيث يؤسس قاعدته على الاقتحام بقوة وهي القاعدة التي اسقطها الجيش الامريكي من فرضيات وواقع ما اختبره في الفالوجة أو السامرة أو مجمل ما عاصره بحربه في العراق ورغم تباعد المسافات والسياقات والجغرافيا والعقائد العسكرية والقتالية لكن المثال لازم الارتفاق تنزيلا على معركة أمدرمان م,٢٠٢٤ فكما قدمت أن قوات الدعم السريع وبدء من يونيو 2023 بدأت بعمليات انتشار بكافة أرجاء العاصمة ومن ضمنها العاصمة الوطنية أمدرمان وهي مدينة تتميز بجغرافيا من حيث المساحة والتخطيط معقدة؛ وتجمع في آن واحد بين تداخل القدم والحداثة ناهيك عما هو أهم وهو كونها مدينة  مكتظة بالمدنيين المرتبطين بالمدينة بشكل وجداني بخلاف أنها في بعض الجوانب تحتوى على ميزة كونها أصل مدني أثري مع الآف الميزات المتممة لمعنى المدينة.

تجربة الجيش السوداني في التعامل مع قضية تطهير أمدرمان تتطابق والنموذج الأمريكي في حرب المدن الذي كتب عنه جوليان بيرون الخبير الفرنسي ضمن استدعائه لتكتيكات حرب المدن ومدارسها بين طرق الاندفاع المدمر والتحلي بالروية والصبر _ نظرية الحفر بالأبرة والتوصيف للاستدعاء بالتمثيل مني_ ويرى جوليان _ المقال بمجلة لو بوان الفرنسية _ أن الهجوم في وضعيات المدن والحرب داخلها يجب أن يتحلى بالعقلانية و استخدام كافة وسائط الاستطلاع المتاحة لرسم خريطة تفصيلية للمدينة المستهدفة، وتوزيعها على قيادات القوات، وإمهال القوات فترة كافية لاستيعاب الخريطة بكافة تفاصيلها حتى الصغيرة منها، بحيث تكون القوات - عندما تتحرك باتجاه المدينة المستهدفة - على معرفة تامة بها وبشوارعها ومرافقها العامة والخاصة، ويفضل أن تقوم القوات بالتدرب على نماذج مشابهة للمدينة المستهدفة إذا كان الوقت متاحاً أمامها. يقول جوليان مع التحسب لحقيقة أن جميع المجموعات داخل المدينة - سواء أكانت أفراداً أم جماعات أم مركبات مسلحة - هي مجموعات معادية، ثم تبدأ الخطوة التالية بالاحتلال التدريجي لمواقع في ضواحي المدينة وجعلها أماكن للاشتباك مع القوات المعادية، ويتم الانتقال تدريجياً إلى مواقع أخرى متقدمة دون التوقف عن الاشتباك مع القوات المعادية. وفي هذه المرحلة، يجب الابتعاد عن محاولات استعراض القدرات، أو اللجوء للمجازفة بغية تحقيق نصر سريع، بل يجب الانتقال من موقع إلى آخر بصبر شديد وبضمانة تامة أن الانتقال لن يلحق أية خسائر في القوات المتقدمة، أو يلحق خسائر غير مبررة بالمدنيين والمنشآت.

 

رسم موقف :

ونحن على مشارف إكمال الشهر الثاني بعد العام من حرب السودان وقياسا على منحز ما جرى بأمدرمان القديمة وبلوغ الجيش السوداني من معاقله في كرري ووادي سيدنا لسلاح المهندسين والشروع في الانفتاح على غرب أمدرمان ومحلية الأمير أمبدة وبتقييس مساحة بالطول والعرض كيلو مترات وسط أعيان مدنية وسكان عالقون وقوة معادية مدجحة بأسلحة قتالية وكثافة انتشار أرضي وطبيعة بناء متداخل وأخلاط مواقع أثرية ومؤسسات خدمية ويكمل الجيش فرضه بخسائر قليلة سواء في بنية المدينة (يقول المهندس المدني صلاح أبو روف: "إنه من واقع فحص هندسي قام به لمناطق أمدرمان القديمة فغالب التدمير جزئي للمباني وبشكل لا يعوق إعادة الترميم وأن الضرر الذي طال المنازل الجزء الأعظم منه نتاج تدمير ممنهج للكهرباء وإمدادات المياه مع النهب المنظم من القوة المحتلة) بينما تشير مضابط رسمية من جهات عسكرية إلى أن خسائر القوات المسلحة السودانية غير كبيرة أو مؤثرة فيما تأكد بالمقابل أن خسائر الدعم السريع في أمدرمان القديمة تجاوزت الألف وبقدر قد يفوق خسائره في الضربات الجوية لليوم الأول للقتال قبل عام خاصة بمنطقة أمدرمان

الجيش وربما لتقديرات أمنية يبدو ضنينا في كشف كامل مشهد العملية العسكرية التي جرت بأمدرمان ربما لكونها مرحلة أولى تعقبها قفزة ثانية وصولا إلى مناطق جنوب أمدرمان وصولا إلى جبل الأولياء من جهة الغرب.

خاتمة :

غض النظر عن استراجية الدعم السريع في إشعال بؤر الاعمال العدائية ببعض الولايات بمنهجية الفرقعات غير المنتجة لعمل حاسم تجاه أهداف كبيرة يمكن القول أنه وبعد عام من القتال أن الجيش أعظم حضورا بالمبادأة والمبادرة وتخضيراته أفضل تجاه اتجاهات الإنفتاح من مواقعة كافة نحو الخارج سواء بالخرطوم أو الولايات مع أفضلية في التفوق البشري وثبات على أرضية سياسية تتجه للتماسك مع الإقرار الأخلاقي بأن كلفة الواقع على المدنيين في المدن والقرى تلزمه بتسريع إيقاع التحضير البطئ لكن بكل حال يمكن التأكيد أن القوات المسلحة استدركت ربما أعظم خرق اأمني وقع بتاريخ السودان وأحدثت حالة انتقال معقدة من وضعية الخيارات الصفرية لموقفها العسكري لصالح وضعية أقرب للمريحة في ترتيب المسرح العملياتي وفق تصورات كلية هي التي تحسم المعارك الكبرى والحروب اكثر من سانحات الانتصارات المؤقتة والمرحلية وبعد أن تجاوز الجيش مهددات السقوط التام للسودان في هاوية المجهول وبعد أن اكتسب بالصبر والمجالدة مشروعية البقاء والاعتراف كفاعل وممثل للدولة فمما لا شك فيه أن غرض الطرف الصانع للحرب أو الناهض بها قد انتهى إلى وضعية البرك المتقطعة من نهر دم يمضي لأن يجف ليجري النيل إلى مستقره بلا معيق أو حرف لمجراه.


بقلم / محمد حامد نوار

صحفي سوداني 

nohmmedhamid@hotmail.com

 


 

يمكنك كتابة تعليقك هنا

أحدث أقدم